المفوضية المصرية للحقوق والحريات

3 مشاهد للمهجر من حكايات الوطن المصري

“الهجرة خطأ لا يصححه إلا الاستمرار فيه”. هذه الجملة الواردة في ديوان جغرافيا بديلة للشاعرة إيمان مرسال، نقلتها الأخيرة عن مهاجر مصري بعد هزيمة 1967، ردا على سؤالها له، إيه رأيك في الهجرة يا عم فكري؟

في مقابلة لمرسال، تحكي عن ذاك العجوز الذي يحيلك أي حوار معه إلى: السياسة، مصر، الهزيمة، عبد الناصر. تصف مرسال حاله المتورط المنافي لأي تنصل من الوطن، بعد عقود من الرحيل عن البلاد “كأنه لسه سايب مصر إمبارح”. ينتمي إلى “من لم يعبروا بحر الظلمات” وفقا لتعبير مرسال، والذي تشير فيه إلى أن الهجرة تطلب من المسافرين عبورا نفسيا مستمرا، ولا يملك من عبر منهم ومن لم يعبر العودة للوراء. 

بين العودة للوراء والمضي قدما سُلم إجبار واضطرار، حين تنقص درجاتُه نسمى الرحيل “هجرة”، ومع التقدم على سلم الاضطرار يصير “تهجير”. في كلتا الحالتين، يقترن السفر بالإجبار وإن تنوعت الأسباب. لا عودة للوراء في قصص المبعدين الثلاثة، والتي يسرد الواحد منهم سطورها فصلا تلو أخر في حكاية أكبر، توحدنا ولو تفرقا. 

مسلسل الرحيل مستمر

في أسبوع واحد ترك أخي مصر. رحل زميل عنها، وودعت صديق يتهيأ للمغادرة. الأول يعمل في قطاع مهني يسافر المشتغلين به مجموعات، تحتشد للمغادرة في طابور المبعدين، تحوذهم أوروبا لأن أبناء الجنوب العالمي “عمالة أقل أجرا من بلاد أدنى تطورا”، ولذلك قصد زميلي الثاني أوروبا للدراسة، حيث “للعلم حاضر ولأصحابه مستقبلا” كما يقال. في حين قابلت صديقي أثناء مرحلة استعداد للسفر بعد “ما جاب أخره” من “البيروقراطية الوظيفية وحكم النفس في النفس”. لكنه أبلغني بعد عدة أيام أن أزمة الدولار أجلت سفره، وأجبرته على البقاء كما هو مضطرا للرحيل. 

إحدى قرى المنصورة في ريف الدلتا.

وحديثا، انضمت إلى قائمة الراحلين، صديقتي الوحيدة “هاجر” في مدينتي الأم (المنصورة). حملت صغيرتها وسافرت إلى زوجها بعد عامين زواج، التقيا خلاله لأشهر معدودة فقط. في البداية كان الوضع صعبا جدا، لم يجد زوجها عملا، لكن الديون التي سافر بسببها، بعد فشل مشروعه وسافر من خلالها أيضا بعد استدانته لجمع التكاليف لم تترك له خيارا إلا مزيد من البحث و”المرمطة” على حد وصفها. “أرجع أعمل إيه” هكذا قال لها، مع تحسن الأوضاع، جاء ميعادها لترحل هي الأخرى. لم نودع بعضنا، أبلغتني في رسالة “أنا سبت مصر، ودلوقت في الإمارات”. 

 تبقى مشاهدة بعد وإبعاد المحيطين شجنة ومثير لدوام التذكير بلماذا تٌهجرنا دولتنا من بلدنا، تستدعي كل ما مضى ولم يمضي. كل ما تظن أنك ودعته ولا يدعك، خصوصا مع دخول الدافع السياسي الأمني على الخط. الطيف السابق من الراحلين، سافر معظمهم لأسباب اقتصادية واجتماعية. 

لكن طيفا ثان من زملائي السابقين بميدان العمل العام، فروا من سجن هددهم على خلفية محاولات تغيير ذات الأسباب الاقتصادية والاجتماعية المتسببة في رحيل الطيف الأول.

بعد ستة أعوام من محاولات انتهى الحال بـ “ضياء” مُهجرا. ترك مصر على خلفية اتهامه في قضية سياسية. اليوم، انتهت علاقته بالعمل السياسي في ميادين مصر، حتى أنه لا يرى في مزاولة بعض أنشطة وظيفية حقوقية مساحة حقيقية لتحسين الأحوال. الحياة في المهجر “صعبة” كما يصفها ضياء. تحتل أولوية إعادة توطين الذات في بلد لا تنتمي إليه أعلى مراتب الاهتمام. 

شتات الباحث عن فرصة للحياة

أما هاجر فإن لم شمل أسرتها الصغيرة هو أهم مكسب من هجر مصر. في حين لا يختار كثيرون الاستقرار حال ذكر الغربة، تجد هاجر في سفرها المعنى نفسه بديلا عن الاضطراب “كنت متشحططة”. لا أبا لابنتها ولا زوجا لرفقتها ولا بيتا يحتويهم جميعا. يرتبط الاستقرار في وعيها بالرزق والزوج “مكان ما جوزي موجود أنا معه”. 

 

لا مساحة للتجمعات الأسرية أو الاجتماعية، ولا وقت أو فرصة لتمشية مسائية بشوارع بلد، لا يمكن العيش فيها بدون سيارة. على مدار شهور طويلة لم ترى فيهم تجمعا إلا لمرة واحدة، ألغى صاحب البناية السكنية التي يقطنون فيها لقاء الأجانب من أسر الطوابق والبلدان المتعددة منعا للإزعاج. 

يمر اليوم في الغربة سريعا جدا، بحيث لا يمكنك اللحاق به على حد تعبيرها “اليوم بيفوت هوا أسرع من مصر بكتير”. تجري أيام الأسبوع حتى تصل لأجازة “الدوام” قالتها بلهجة خليجية. يمكنك الذهاب للمول وبضع أماكن عامة يسمح فيها “للي معهوش” يجلس إلى جوار “اللي معه”. تقارن الحال في الإمارات بمصر، حيث يمنع على العوام النفاذ إلى مناطق بعينها للخواص، ولا سيما مع تقلص المساحات العامة وخصخصة الفراغ. أما في البلد الجديد فالحكومة تترك متنفس “نظيف” يكفي  أرجوحة طفلة وكرسيين لأم وأب. 

تعرج هاجر على أولى مفارقات المقارنة بين الوطن الأم وبلد الغربة، إذ أن نموذج العمارة الخليجية الذي يسنسخه صانع القرار المصري في ملف “التطوير العمراني”، يفتقر حتى لما تشيد به ربة منزل في تجربة الانتقال من الحياة المصرية إلى المدينة الإماراتية أبو ظبي. 

القاهرة التاريخية، حيث تقترن ممارسة الهدم المستمر بنموذج “التطوير الرسمي” في سعيه لاستبدال تراثها بمدينة المباني الزجاجية: دبي.

المفارقة الثانية أن تفاصيل بسيطة كاعتذار طفلة لابنتها حال نشوب شجار بينهما، تستدعي إحساسا بالأمان، يتبعه حكم بأن “الناس هنا مؤدبة والشعب طيب”، إذ أن الأوضاع الاقتصادية الضاغطة على المصريين “الكثيرين جدا على البلد”، لا تسمح لهم بممارسة مثل هذا اللطف في رأيها، وتستمر هاجر في مقارنتها بين مصر حيث ملايين البشر ممن لهم احتياجات لا يمكن توفيرها بسبب تعدادهم الهائل، بينما تستند البلد الجديدة في قوة عملها على سواعد الأجانب. تلحظ أنه ما بين خمس إلى عشرة طاولات في مطعم، هناك أسرة إماراتية واحدة، تقول: “تخيلي”؟

في محاولة التخييل، تستدعي نظرة صديقتي عملية التعزيز الرسمي الدائم لإسناد سبب البلاء الوطني إلى أزمة الزيادة السكانية وعدم كفاية الموارد، حسبما يرد مسؤولوها وفي مقدمتهم رئيس الدولة شخصيا.

 بلا أرض: أحلام عالقة

لكن هاجر في مقارنات تجربتها الحياتية تصل ضمنيا إلى ذات النتيجة العلمية، التي أودت ببعض الباحثين المصريين إلى السجن، “لو لقينا في بلدنا اللي يكفينا، مكناش سيبنها، ومكنش نحب نسيبها”. في كتابه “هل مصر بلد فقير حقا؟، ينتقد عبد الخالق فاروق السياسات الاقتصادية. يُرجع مسلسل الأزمات المتتالية إلى إدارة الدولة المصرية، والتي تنسب بدورها التأزم إلى فقر الشعب.

في 2022، رحل المهندس المصري أحمد إلى ألمانيا، بهدف عمل أفضل في بلد جديد. بعد حوالي عامين، يبحث عن رحيل ثان بين عِدة واجهات، ليست مصر إحداها. يفسر ذلك بصعوبة التعايش الاجتماعي مع الألمان، ولا سيما بعد أحداث السابع من أكتوبر في فلسطين. خلال مدة اغترابه، زار أحمد مصر عِدة مرات لفترات قصيرة جدا. تمثل كل منها صدمة اقتصادية جديدة، يعجز دوما عن تخيلها من أحاديث الأهل والأصدقاء، لكن حركة الشراء والبيع خلال أي عملية تجارية بسيطة تربكه، ما يعبر عنه بإيماءة وجملة واحدة يرددها كل زيارة “مصر بقيت غالية أوي”.

بالرغم من اقتطاع نظام الضرائب في ألمانيا 40% من راتبه، لكن مقارنة الأسعار بالنسبة له ليست في صالح مصر. يمد المقارنة على استقامتها إلى مناحي حياتية أخرى، لا تودي به إلى حيث ذهبت هاجر. على عكسها يقول “الناس هنا مبتحبناش، الواحد فيهم بيضحك في وشك وجواه لكِ عدواة وكراهية شديدة”. يعرب عن مشاعره في جملة مقتضبة “أنا مش مبسوط، وعايز أمشي”. لم يعود أحمد إلى مصر. بعد مكالمة طويلة، تركته في فضاء الإنترنت يبحث عن الواجهة القادمة إلى هناك، حيث مكان جديد لا يعرفه، بينما أفكر في عشرات الأشخاص الذين يشاركونه البحث من هنا عن هناك آخر إلى بلاد أحلامهم.

حين تغدو الأحلام حقيقة، يكون للواقع رأيا آخر. من بين ستة أشخاص حاورتهم في إعداد هذه القصة، وأوردت حكايات نصفهم فقط، ليس ثمة استثناء واحد لإجماع المبعدين على بحثا  لا يتجاوز حقوق المواطنة في بلاد غير الأوطان، وليست كذلك “أرض الأحلام”

 

Exit mobile version