اصدارات

نتائج مسابقة “ECRF الفن وحقوق الإنسان” النسخة السابعة قصص/هن

العمل الفائز بالمركز الأول:

“نساء مخصيات”  –  سارة عبد النبي

اشتد الفقر، وترنح الناس جوعاً، في قرية معزولة بعيدة، أصابتهم الحاجة حتى قاسموا بهائمهم الهزيلة في حشائشها، فقد طال خصام الغيوم لهم وحرموا المطر وخير الأرض، ولم يجدوا ما يعرضونه على الجيران من القرى مقابل الغوث.

فما كان من شيخ القرية إلا أن وافق على طلب المقاول في إرسال الرجال والصبيان للعمل في المدن البعيدة، سيطول الغياب ربما أشهراً أو سنة، لكنهم سيعودون بالخير للقرية اليابسة.

عائمين على دموع نسائهم، أبحر القادرون من الرجال إلى العمل في تلك العربات المكشوفة، تركوا صغار ورجال كهول ونساء، ستغير تلك العربات التي حملتهم، حياة الجميع.

انقضت الأشهر ببطء، ترزح تحت ثقل الغياب، في البداية بدأن يكتشفن الحياة كمن يتلمس الطريق في الظلماء، يخرجن متى أردن، يجلسن كما يحببن، فلا الصبية بلغوا الحلم ولا الكهول يشكلون سلطة، حتى شيخ البلد نفسه لم يعد مهماً، كن يكتشفن المشي مجدداً، التنفس، الحديث، والضحك، لكن اللذات لا تدوم، سرعان ما ظهرت ثقوب الغياب في قلوبهن، اشتاقت المتزوجات لرجالهن، والعذراوات لوقفات النوافذ يسترقن النظرة للصبية، فاشتد الشوق وشد معه أعصابهن، أصبحن كما الإنسان في شده جوعه لا يقدر على شيء، كذلك هن. 

بعد سنة، عاد الرجال، اكتست القرية بحرارة، لم يعرفوا أجاءت من قدور الولائم، أم قلوب المشتاقين، ظنوها ليلة العودة إلى الديار فقط، لكن شوق النسوة استمرّ طوال ثلاثة أشهر بقائهم، كن كمن يعب من الماء قدر ما يسعه فمه وصدره، تسعى كل واحدة أن تأخذ نطفة قبل الرحيل التالي، أقيمت عديد من الأعراس، حتى كاد يهلك الرجال لو لم تأتيهم العربات لتسرقهم مجدداً تاركين زوجات وحوامل وراءهم.

تكررت العودة بعد عام، ثم آخر، وكل رحيل للعربات يشد معه وتر الأعصاب مصدراً صوتاً عالياً ومشاكل لا أساس لها بين النساء، نمت الغربة بين العائدين والباقين، نفور وشوق بين الزوجين يتصارعان كل ليلة على أمل الفوز، تكاثرت الشكاوى عند شيخ القرية، بين رجل لم يعد يستطيع كفاية امرأته، وبين آخر ترفضه امرأته بحجة اعتيادها الغياب، وآخر يبث شكه حول ان حمل زوجته يسبق عودته بشهر او اثنين، 

تجمع الرجال في وليمة لعدة أعراس في القرية جمعت كلها في احتفال كبير، وقف الشيخ في قلب المندرة، وخطب في الرجال 

” يطول غيابكم، مخلفين نسوة وحيدات وفرشاً باردة “

” لقمة العيش يا شيخ” صرخ أحد 

” فراش بارد يدفأ كل عام لمدة ثلاثة اشهر خير من بيت يابس وأطفال جياع “

رفع يده واحنى كفه طالبا الصمت منهم 

” وانا ما لمت منكم احداً، رأيت من تبدل طباعهن مالم أتخيله، واستشرت القابلات عن الحل، بحكم أنهن الأكثر علما حول النساء، فأخبرنني أن جزءًا من كل امرأة يطلب الرجل، والحل في تطهيرهن بإزالته، حفظاً للعفة وشرف البلد”

صمت الجميع، همهموا، وافقوا، فمن يرفض هو مفرط في شرفه وسط الجماعة 

في الصباح أعلن الخبر، يصيح المنادي 

” يا نساء البلد، من أرادت منكم حفظ شرفها وصون عفتها، فعليكن ب” الطهارة ” تقوم بها القابلة أم علي” وتكرر النداء مرات ومرات، يخفت الصوت في شارع ليعلو في آخر 

دخلت القابلة أول بيت بعد رحيل الرجال، نادت على من فيه، تجمدت صاحبة الاسم، فقد حان الوقت، دخل مع القابلة أربعة نساء، وفجأة قمن بتكتيفها،  بسرعة ودس القماش في فمها كي لا تفزع الصرخة باقي الجارات وتمت ” الطهارة “، أفاقت المرأة التي غابت عن الوعي بسبب للألم، حولها الجارات بعيون فضولية هلعة يتساءلن، وصوت القابلة من الزاوية تشرح سهولة الأمر لامرأة أخرى، يسألنها كيف تشعر، تهز رأسها، ماذا تقول؟ أنها شعرت كيف يخرج الموت روحها من جسدها؟ أم شعورها بأنها تسقط من عل

تماثلت إلى الشفاء، استمرّت العمليات طوال العام، طالت كل امرأة لازالت تحيض، وكل طفلة قد اقتربت من البلوغ.

عادوا مرة آخرى، لكنهم لم يجدوا نساءهم القدامى،وجدوا أخريات، ماتت من ماتت من الإناث إثر الختان الذي انتشر بينهن كما تنتشر العدوى، ومن بقين على قيد الحياة لم يعدن نفسهن، خيم شعور بالهدوء الثقيل، برد وسقيع تسلل لأجسادهن رغم اشتعال قلوبهن بالشوق والرغبة، لكن كالسراب في الصحراء، لا يستطعن العودة إلى الشعور الأول، الشبع الأول، الذروة الأولى، هكذا إذن يكون الطهر؟ 

توالت الأجيال ، واستمر الرحيل إلى المدينة، واستمرت معه ” الطهارة ” ، لم يتحدث أحد عن الموضوع أبداً، بعد تلك الليلة التي اجتمع فيها الرجال على الأمر، ظل الأمر طي الكتمان حتى بين النساء بعضهن، بقيت هذه المنطقة من أجسادهن محظورة، لا يتلمسنها حتى بالحديث

لا يذكرن الجدّات، لكنهن يتذكرن أن الأمر له صلة بالشرف والعفة، فظلوا يمارسون الختان حتى بعدما استقر الرجال بجوار نسائهم، وحتى بعدما ماتت القابلة، استمرّ اجتثاث ذلك الجزء من جسد كل فتاة صغيرة.

              ************************

جلست في غرفة بيتها، على حصيرتها المغطاة بالسوائل والدماء وبين يديها رضيعة صغيرة تشبه قطعة اللحم، تحملها بين لهاث وإعياء وصراخ الطفلة، تفتش في جسدها كما لو أنها أضاعت شيئاً، إنها فتاة، وتعلم أنها فتاة، عما تبحث؟ كانت هذه المرة الأولى التي ترى فيها شكل عضو أنثوي مكتمل لا تشوبه سكين القابلة بأي شائبة او خدش،سيطهرنها، بعد خمس أعوام أو حتى تسع كما جرت العادة بتطهير الصغيرات؟ صغيرة وضعيفة تكاد تنكسر بين ذراعي أمها، كيف يمكن أن تحتاج الطهارة، من أين لها بالدنس؟

عزمت امرها، لن تمسها القابلة مهما حييت، لكن كيف؟

في الصباح علمت الجارات بالولادة التي خاضتها وحيدة، مباركات هادئة، ف المولودة فتاة، مر الوقت وكبرت الطفلة، بلغت الثامنة، وحان الوقت،غشيها الخوف عندما سمعت الجارة تذكر الأمر، لكنها أقسمت في ليلة الولادة، انتظرت حتى جاءت القابلة من بيت قريب بعدما أنها ختان طفلاتها، دخلت المرأة سعيدة بموسم الطهارة هذا، إذ يشبه موسم الحصاد للزراع، لكنه حصاد من نوع مختلف.

ما ان دخلت البيت حتى دلتها الأم على غرفة الطفلة، ثم اغلقت الباب، توجست القابلة إذ لم تجد الصغيرة، لكنها اقتربت منها نازعة خاتمها الذهبي، دسته في يد القابلة واخبرتها أن الختان قد تم، فلتأخذ الخاتم وتقنع نفسها انه تم، حاولت القابلة الحديث فبرقت عيون المرأة وضغط يدها على الخاتم

أخذته القابلة وهي تخبر نفسها ان امرأة مجنونة نفرط في عفة ابنتها، فليكن، الخاتم أغلى من الجزء الذي كانت ستقطعه. 

مر الأمر، ومرت معه السنون على جسد الصغيرة حتى أصبحت عروساً ستزفّ بعد أيام، والأم في حالة هلع، ماذا لو اكتشف زوجها الأمر؟ خنقها البكاء كلما رأت ابنتها وهي تتخيل موتها على يد الرجل، لكنه لم يحدث، تزوجت ومر الأمر بخاتم واحد أخبرت الكل أنها أضاعته.

جاء عام على البلد، جف فيها الزرع وضروع الماشية، هشت الأجسام حتى أصبحت كالبوص المسقوف بيه بيوتهم، صلوا وتضرعوا، ولم يهبط المطر، اشتد الجوع شهراً وراء شهر، ردوا الأمر للظلم للذنوب ولكل ما يمكن أن يخطر على بالهم ، طلبوا من كل المذنبين التوبة، دقوا بيوت بعضهم يطلب المرء العفو من أخيه آملين أن تكافئهم الغيوم وتحنو عليهم 

تآكل عقلها من الجوع، فخرجت تلك القابلة تصيح بين الناس، بأرجل ضعيفة ومشية تفتقد لكل ما يشبه مشية إنسان بعدما أفقدها الجوع والقرف من أكل الحشائش كل صبر 

” ليست طاهرة، هناك فتاة لم تتطهر على يدي، ليس طاهرة” ثم سقطت بين الموت والحياة 

سقط النداء عليهم سقطة الثمرة على جائع، لا يدرون كيف يجب أن يشعروا، ظنوا أنهم عرفوا العلة، لكن من صاحبتها 

تشاوروا ليلتها، ينتظرون القابلة أن تفيق؟ ماذا لو لم تفق وماتت

قامت امرأة وقد حصد الجوع ثلاثا من أبنائها، وقالت بصوت ثابت ” نكشف على كل النساء الذين تطهروا على يد القابلة “

خنقهم الصمت، فمن ستوافق أن تفتح قدميها على عدة نساء يشهدن بطهارتها؟ والفتيات العذراوات؟ كيف سيكشفن عورتهن – وإن على نساء – قبل الزواج؟ من سيقبل أن تكون زوجته او ابنته غير متطهرة؟

” وما مصيرها من لم تكن قد تطهرت؟”

سأل صوت بين الجموع لم يرد أحد أن يعرف من هو 

” نصلح المكسور ونطهرها” وجم الكل، فالكلام عين العقل، لكن التنفيذ هو الإهانة بذاتها.

انفضوا لا بين رفض ولا قبول 

تردد الكلام بين الجميع، فالذي بات مستنفراً صار مستساغاً، جعلته أصوات البطن منطقياً مرغوباً 

تطوعت عدة نسوة لهن من الأحفاد عدد، وقررن أنهن الحكم، دخلن البيوت وفرقن بين الأرجل كما لو كن يبحثن عن فأر أكل فرخ الحمام الثمين، من تمنعت أجبرت، حتى وجدنها 

، شعر بالصدمة حين رأينها، أهكذا كان شكلهن قبل ذلك الطهارة؟

حبسن الفتاة في منزلها، بنية أن تقوم القابلة بعملية الطهارة، لكن ليلتها، تساءلت كل امرأة، عن شكل ذلك الشيء الذي لم يرينه ابداً، ترى ما الذي يجعلها غير طاهرة، لقد كانت معهن دائماً، تربين سوياً وكبرن سوياً، لم يرين عليها أبدا علامات الفجور وانعدام العفة، كانت مثلهن وهن مثلها.

دخلت القابلة للبيت وسط صراخ الأم وتوسلاتها، لم تفهم الفتاة شيىئا، فعلت ما طلب منها، دائما ما كانت تفعل 

اغلقي قدميكي عند الجلوس، لا تقفزي،لا تركبي الحمار كالرجال كل قدم في ناحية، حتى تصلحي للزواج، لا تلمسي تلك المنطقة، لا تزيلي الشعر منها، لا تنظري لجسدك في المرآة، فعلت كل شيء، وهاهي الآن ستعاقب على شيء ولدت به، لماذا؟ 

غطت صرخاتها القرية، هل سمعتها النسوة في البيوت البعيدة حقاً أم كن يتوهمن؟ ربما كانت صرخاتهن وهن صغار؟ او صرخاتهن التي حبست ليلة العرس؟ لا يعلمن، لكنهن سمعنها، اخترقت الصرخة أعماق قلوبهن.

قالت القابلة أنها ستشفى، عدة أيام وتبرأ ، لكن الوجوم لم يختف، ولم تمطر السماء أيضا، أصبح بيتها كقبلة للحجاج، يزرنها النسوة، تود المرأة لو تجلس جوارها تبكي، لمً تبكي؟ لم شعر الجميع أنهن فقدن شيئاً ما من أجسادهن، أحداً من أطفالهن 

هذت العجائز بآلام الطهارة الأولى، وبكت الصغيرات من خوفاً من المصير ذاته، وماتت الفتاة، ولم يهبط المطر، وددن لو يسألنها كيف هو أن تحتفظ بجسدك كاملاً لا ينقصه قيد انملة

بعد دفنها، لم تستطعن العودة إلى القرية، لم يتحدثن، لكن كل واحدة رحلت في اتجاه، تاركين خلفهن البلد والرجال والأطفال وجزء من أجسادهن فإن عدن حقاً فقدن ” طهارتهن” 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى