من يمتلك حق الجسد؟ سؤال قرر عبره الكاتب أحمد عبد الحليم اعادة قراءة الحياة السجنية، ليأخذنا كقراء في رحلة مقبضة -لابد منها – واعدا بالعمل على تفكيكها، وتركيز البصر عليها خصوصا فيما بعد تاريخ 2013 حين لجأت السلطة إلى السجن كوسيلة عقابية في وجه كل من يتجرأ و يعارضها فيما ترى، فكانت النتيجة آلاف المسجونين بمحاكمات وبدون، وحديث لا ينقطع عما خلف الأسوار في أنحاء المحروسة.
خلال الكتاب دمج أحمد بين الرؤى الغربية والشرقية في محاولة لتتبع السياسات العقابية، بشكل علمي غير مشوب بالأدلجة، أو حتى محاولة فرض الرؤى الرومانسية أو الذاتية النابعة من تجربته، على تلك القراءة.
في كتاب عبد الحليم المسألة ليست سياسية فقط، إذ لا يقتصر الأمر على استعراض أوضاع السجناء السياسيين، إذ يركز على الفلسفة العقابية عموما، وضحاياها كافة من سياسيين، و جنائيين، فالكتاب أقرب للدراسة من الأدب السجني، رؤية فلسفية تطبيقية، ومحاولة للتشريح، يطلق من خلالها نداءا مهما، مفاده متى يتحرر الإنسان من كهنوت السلطة، متى يتحرر الجسد؟
عن منهجية الكتاب، يقول أحمد نفسه أنها “منهجية ممزوجة بالبحث الميداني والنظري، حيث أجرى 30 مقابلة مع سجناء وسجينات سابقين وسابقات، في مقرات احتجاز مختلفة. كما أن الكتاب مؤطر نظريًا بأكثر من مئتي هامش بحثي وصحفي. معتمدا أيضًا على فرضية مفادها، أن السلطوية في مصر، منذ بدء تأسيسها الحديث على يد محمد علي باشا (1769 – 1849)، امتلكت أجساد مواطنيها من خلال سيادتها”.
غلاف كتاب : من يمتلك حق الجسد؟
في تشريح السيطرة..
لا يمكننا بأي حال من الأحوال قراءة كتاب عبد الحليم عن الجسد، بمعزل عن فلسفة فوكو، وهو ما يشير إليه في العديد من المواضع.
يعد المفكر و الفيلسوف ميشيل فوكو المنظّر الأعظم عن الجسد في القرن العشرين، حيث كشف «فوكو» من خلال أفكاره التي عبر عنها في كتاباته عن الحضور الشامل للسلطة داخل الصياغات الخطابية المتعلقة بالجسد، إن أهمية الجسد لدى فوكو تصل لدرجة أنه يصف أعماله الفكرية بأنها تشكل تاريخ أجساد، حيث يرصد الطريقة التي يتم من خلالها استثمار الأجساد مادياً وحيوياً.
طالما انشغل فوكو بفهم كيفية دخول الجسد إلى الخطاب السياسي، وكيف تُمارس السلطة على الجسد، في المؤسسات المختلفة كالمدرسة والسجن والمصنع والمستشفى، بحيث يتحول الجسد إلى كائن لين طيع.
بالعودة إلى كتاب “من يمتلك حق الجسد” نجد عبد الحليم يقوم بتشريح الجسد وتقسيمه متأثرا بفوكو، وإن امتلك تجربته الخاصة، ورؤاه المنطلقة من المجتمع المحلي.
يقسم احمد كتابه إلى ثلاث فصول يناقش في أولهما ستة نماذج تمثل الجسد وهم العاري، المراقب، الذليل، الآلة، الخادم، المريض، الميت.
جميعها صور يرى فيهم أحمد تمثلات جسدية فاعلها سلطة تسعى للسيطرة على جل تفاصيلك اليومية – المرئية، عبر ممارسات الإخضاع التي تطبقها بحق السجين، فتجعل منه جسدا خاضعا، مراقبا وغيره..
الكاتب أحمد عبد الحليم – المصدر: صورة للقاء صحفي سابق
غني التعريف أن حق الإنسان في التصرف في جسده حق أصيل معرف بالبديهة، ودائما ما تبتغيه السلطة الغاشمة، فاستيطان الجسد بابها للحكم والنفوذ، ومن اليوم الأول لدخول عرينها أي السجن تعمل كل جهودها على اخضاعك جسديا ومن ثم نفسيا، بدءا من التشريفة التي يستقبل بها عملاء السلطة وحراسها المسجونين، فيبادرون إلى ضربه والتحرش به، ويسارعون إلى تعريته جسديا، إعلانا بامتلاك ذلك الجسد، واخضاعك بشكل تام.
ينتقل أحمد بأوصافه لتلك التمثلات الجسدية في فصلنا الأول، ليجسد لنا زمن العقاب وما يحدث به، وكيف يعيد هندسة الإنسان على حد قوله، فالنفس والجسد يتم تفكيكهما تماما، ليتم إعادة بنائهما مرة أخرى من خلال تلك الممارسات المقصودة، حتى أنها تأخذ شكلا قانونيا – عرفيا، يطبع معه الجميع، ويصبح المقاوم له فاقدا للأهلية “مجنون”.
تلك الطاعة التي لم تحميهم من الموت وأخيرا الجسد الميت حيث يورد أحمد في كتابه أرقاما توشي بحجم المأساة داخل السجون، ومع ذلك فبحسب شهود العيان فإنها لا تعبر عن الأرقام الحقيقية، والتي تتراوح أسبابها ما بين الإهمال الطبي، والتعذيب الجسدي، والانتحار.
الحياة الجنسية للسجناء
يشاركنا الكاتب رؤاه حول المسالة الجنسية للسجناء التي يعتبرها الأكثر أهمية، والشغل الشاغل لهم،
فيقول “الجنس وأفكاره ومخيلاته تدور في كل رؤوس السجناء، حيث الشباب الذين لم يُمارسوا الجنس من قبل الرجال أو النساء المتزوجون والذي قاطعتهم الممارسة الجنسية بسبب دخولهم السجن. تتعقد إشكالية الاشتياق أكثر عند السجناء والسجينات المحكوم عليهم بعدد سنوات كثيرة، حيث لا يستطيع أي إنسان المكوث سنوات طويلة دون ممارسة الجنس حق إنساني، علاقة فطرية وطبيعية، تمد الإنسان بمزيد من الاستقرار والسواء النفسي، والعقلي والجسدي”.
تلك الحقيقة الأساسية أنكرتها أغلب الأنظمة المصرية، ولكن كان هناك من وقت لآخر مناقشات تخص المسالة، كما كان هناك استثناءات فيما يخص الخلوة الشرعية، حيث لا يعترف النظام المصري بالجنس خارج منظومة الزواج التقليدية.
لكن منذ عام 2013 أنكر النظام السياسي تلك المسألة تماما، وتجاهلها، فلأول مرة هناك عشرات الآلاف من السجناء السياسيين في عهدتها، لتتفوق على كافة الأنظمة السابقة، تلك الأعداد التي لا تريد بها خيرا، وتحاول بشكل دؤوب السيطرة على أجسادها أملا في تطويعها، فكان من الأولى عدم منحها الحقوق خصوصا الجنسية.
في الوقت نفسه استباحت تلك السلطة الأجساد، تارة بالتعرية، وتارة باللمس بدعوى التفتيش، رغم وجود أجهزة تخص تلك المهمة، إلا أن الهدف هو الإذلال، والسيطرة، الذي يتم لهم كما يعتقدون عبر تلك الإجراءات.
صورة مسربة من داخل أحد الزنزانات – المصدر: مؤسسات إعلامية
في المقابل وبحسب عبد الحليم تدرك السلطة السجنية جيدًا الاحتياج المتلازم والغريزي لسجنائها رجالا ونساءً، ولكنها تحاول حوكمته بعدة وسائل غاضة البصر عن هذا الاحتياج، وتبرر ذلك دائما أنها ليست جهة تشريعية بل هي جهة منفذة للقانون، فحين يُشرع قانون لتلبية الاحتياج الجنسي للسجين، وقتها تبدأ السلطة العقابية في تنفيذه وفقا للوائح المتاحة.
في رأي عبد الحليم يبدو ومن ناحية قانونية هذا الأمر منطقيا ولكنه وطبقا للفلسفة المرئية، وبالنظر إلى الحياة السجنية شيئًا خياليا السجين في نظر السلطة العقابية جسد مرقم فقط تستلمه وتهندسه على الخضوع والطاعة للقانون المرئي وفق النظام الحياتي هناك، بل تصنع من جسده آلة إنتاج جديدة، تساعده في العمل داخل السجن في الورش والتصنيع ومخابز العيش والكانتين والحلاقة والمطبخ لطهي الطعام؛ وتلك الخدمات بالطبع تكون بمقابل مادي زهيد جدا..
صورة من داخل أحد السجون المصرية – المصدر :وسائل اعلام
في هذا الشأن أيضا يعلق عبد الحليم بالقول:
“يبقى السجين حائرًا متحيراً مع هذه الغريزة التي تلح عليه دائما، ولا طريقة أو خلوة تجمعه بزوجته أو زوجها. وحتى السجين الأعزب لا مخرج له حتى يقيم علاقات جنسية في الخارج، سواء داخل إطار الزواج أو خارجه، لذلك يلجأ السجين إلى عدة وسائل وطرق لتصبير حاجته إلى الجنس، كممارسة العلاقات المثلية Homosexual أو الاستمناء Masturbation “ وجميعها أمور يعاقب عليها في حال رصدتها إدارة السجن.
جميعها أمور تجعلنا نستخلص أن السلطة العقابية تمتلك السجين/ة، منذ دخوله السجن حتى الإفراج عنه. من روحه لذاته وحتى جسده، وتبدأ في محو قيمته الإنسانية، بداية بعري جسده واستباحة أعضائه التناسلية، وهي قيد تفتيشه على الملأ، وعن طريق فلسفة التعامل اليومية. يُهندس جسد السجين على الخضوع والطاعة، فينام ويستيقظ ويتحدث ويعمل ويتحرك كما تملي عليه فلسفة القانون المرئي التي تحددها السلطة.
الممارسة الجنسية أيضا داخل السجون وإن شرعت وبحسب عبد الحليم ستكون ضد ما سماه فلسفة الحياة المرئية داخل السجن، وحسب نظرية الطبيب النفسي فيلهلم رايش القائلة إن الاكتفاء الجنسي يُحقق ثورة ضد الخضوع، وعليه ستتعارض مشروعيته الجنسية الطوعية مع فلسفة الحياة القائمة.
تمثلات أخرى للجسد يشكلها العمران
في الفصل الثالث، والأخير من كتابنا يعرج الكاتب على تمثلات أخرى للجسد وهي: المطوع، والمكروه، والموهوب، واللامنتمي، والأعزل، والمنبوذ.
يطرح الكاتب محاور تتعلق بالعمران، الذي يساهم في تشكيل تلك التمثلات الجسدية، فكما نعلم العمران صانع أساسي لثقافة البشر.
في العمران يلفت الكاتب إلى تميز كثير من السجون المصرية وحتى مراكز الاحتجاز بما فيها مراكز الشرطة بوجود أقفاص بداخلها، تلك الأقفاص يُفتش فيها السجين، ويجتمع فيها الأهل بالسجين عند الزيارة سواء داخل القفص أو من خلال وجود السجين داخله والأهل خارجه، فيما تُسمّى بزيارة السلك خلالها، كما يتم أيضا تفتيش الأهالي بطريقة مهينة.
تلك الأقفاص التي تهدف أن يكون السجين دائما على مرأى السلطة كنوع من المراقبة الدائمة، وكذلك العمل على دنو إنسانية السجين، وإنزالها جبرا لمرتبة حيوانية حيث من المعروف أن الأقفاص هي المكان الذي تربى وتعيش فيه الحيوانات.
صورة لأحد السجون المصرية من الخارج – المصدر: أرشيف
تمتد تلك السيطرة وتتجاوز البنيان الضخم الكئيب إلى الألوان السائدة، والتي تتمتع بالدكونة الأسود كلون القضبان، والرمادي وهو اللون المطلي به جميع الجدران والحوائط التي تحيط بالسجين.
وهما اللونان المُثيران للنشاط العقلي والعصبي للسجين حيث يمدانه بشعور الحزن والاكتئاب. فضلا عن أماكن تواجد تلك الزنازين في الأرض أو حتى تحت الأرض، ما يستدعي إحساس الدنو النفسي.
وأخيرا وطبقا للكاتب وبعد أن تتفاعل السياسات الحياتية مع عمران السجن، وبمرور الوقت يُعاد إنتاج هندسة جسد السجين طبقا للحياة المرئية الجديدة تماهيات الجسد كلها التي تدلل على الخضوع والطاعة لتلك السلطة.
ولا ينسى الكاتب في فصله هذا ذكر واحدة من أهم الأدوات القليلة التي يمتلكها المسجون، والتي تشعره ولو لحظات بالحياة والحرية، إنها خطابات السجن، أو ماندعوه بـ أدب السجون، تلك الرسائل الفنية المملوءة بالقيمة اللغوية، وما يزيدها جمالًا شاعريّتها وأحاسيسها وقيمتها بالنسبة لطرفيها.
يقول الكاتب: “على مرّ الزمن، لا تخلو زنازين مصر والعالم كلّه من السجناء بكافة تنوعاتهم واختلافاتهم الماديّة، التعليمية والاجتماعية. وأُرسل من داخل تلك الزنازين إلى الخارج والعكس، عدد لا يُحصى من الأوراق المكتوبة، المملوءة بفيض لا يُعدّ من المشاعر والأحاسيس والوعود والحكايات والشكاوى والرضى، يتواصل السجين مع أصدقائه، يحاول إنعاش ذاكرته التي يتمّ مَحوها من خلال السياسات الحياتيّة لدى السلطة العقابية، التي تساعد بفضل الانعزال التام في محو الذاكرة الخارجية”
“يحاول أيضًا من خلال تلك الخطابات نقل الصورة التي يراها، التي ما زال لا يُصدقها، يحاول السجين الاعتذار، عن أي شيء، ليس عن كونه فعل شيئًا ما تسبب في سجنه، بل الاعتذار بشكلٍ عام، عن هذا الوجود الذي منح أمه المشقّة”
كما يعتبر الكاتب أن تلك الخطابات ليست مجرد كلمات تذهب هباءا بل تأريخا للمشاعر، كثيرا ما احتفظ أصحابها بها، حتى بعد انتهاء محنتهم، وكثيرا ماتم نشرها، وخرجت إلى العلن، وهو الادب الذي نملك منه القليل من كثير يحدث في شعوب تتجرأ بين فينة وأخرى على محاولة التغيير، والخروج عن نص فرضه الحكام، طالما هدف لإخضاعنا.