كما هو الحال مع لوحاتها وربما جل مشوارها، تمتاز مذكرات الفنانة التشكيلية من الطفولة للسجن بالبساطة، والرؤية العميقة للأحداث التي لا تجعله، في المركز منها طول الوقت، غير عابئة بلعب دور البطولة، أو حتى كونها من أوائل المعتقلات من النساء، هي فقط تروي شهادتها عن عصر بالغ التعقيد، مكثف الأحداث.
في مواجهتها للمجتمع، والسجن، والحاكم، لم تميل أفلاطون إلى المبالغة في وصف المعاناة الشخصية، ولكن الوقائع تشهد بأنك أمام سيدة رقيقة من الطبقة الأرستقراطية، اختارت أن تعبر عن الفقراء، عبر البحث عن خط سياسي يكرس لقيم العدالة، والمساواة.
في كتابها مذكرات إنجي أفلاطون من الطفولة إلى السجن، اختارت أفلاطون استعراض مسيرتها كاملة بما فيها السجن لأكثر من 4 سنوات، ونصف، وذلك رغم ندرة حالات اعتقال السيدات في تلك اللحظة، ولكنها مع ذلك لا تستغرق تماما في عرض التجربة السجنية، بل تكتفي بالثلث الأخير من الكتاب للحديث عنه، ربما رأت في مراقبة الحركة الشيوعية ككل أولوية عن همومها الشخصية.
عبر صفحات الكتاب لا يمكننا إغفال تجسيد مسيرة إنجي معنى ما من معاني التقاطع النسوي، حيث أن ما هو شخصي هو سياسي، وأن مطالبات عدم التمييز ضد النساء، يمكنها أن تجاور أفكار التحرر الوطني، أو حتى التحول الديمقراطي، دون تعارض.
غلاف كتاب إنجي أفلاطون من الطفولة إلى السجن- المصدر: الأرشيف الإعلامي
إنجي أفلاطون.. من الطفولة
“من أشد ما أثار دهشتي واشمئزازي أيضا في تلك المدرسة التفرقة في المعاملة بين الراهبات أنفسهن، كانت هناك الراهبة الأم، التي تنتمي قبل دخولها الدير- إلى عالم الأثرياء، وكانت هناك الراهبة الأخت، القادمة من عالم الفقراء. تمتعت الراهبة الأم بامتيازات كبيرة، واحتلت مكانة الحاكم في قلب المدرسة، تأمر وتنهي وترتدي ملابس أنيقة ولها أكل نظيف خاص والراهبة الأخت هي التي تقوم بالخدمة والأعمال الدونية متل غسيل الأرض ومسح دورات المياه والمطبخ كان بالمدرسة إذن نفس النظام غير العادل الموجود في الخارج، أعني في المجتمع، والذي سأثور عليه فيما بعد. نفس الظلم ونفس التفرقة، لكن هنا تزداد بشاعته إذا فكرنا أن الراهبات جميعا دخلن الدير للزهد، والعبادة لا للتمتع بامتيازات المجتمع المادي خارج الأسوار. لقد كرهت بكل شعوري ووجداني تلك المدرسة، شعرت أنها أقرب إلى السجن، كرهت القيود على حريتي، والعيون التي ترصد حركاتي، وسكناتي، وتدين كل ما أفعله، وأدركت لأول مرة، ولم أكن قد تجاوزت الثانية عشر ربيعا، أن التمرد حالة ضرورية للتصدي للظلم الواقع علي وقررت أن أبدأ، ومن هنا أستطيع أن أقرر دون فخر، وأيضا دون تواضع، أن التمرد كان السمة التي لازمت حياتي فيما بعد”.
من مذكرات إنجي أفلاطون
ولدت أفلاطون عام 1924 في عائلة أرستقراطية تتعامل في يومها العادي باللغة الفرنسية، كحال الطبقة المخملية آنذاك، حتى ان إنجي نفسها اختارت الفرنسية كلغة لمذكراتها، التي ترجمها وحررها، وفرغ بعضها من شرائط كاسيت، لتخرج إلى العلن في هذا الكتاب.
ولقب أفلاطون هو لقب أطلقه محمد علي شخصيا على العائلة حين اختار جدها ضمن الطلاب المبعوثين، وقيل له ان الناس تطلق عليه لقب أفلاطون لكثرة تساؤلاته، فقال ولما لا نحتاج أفلاطون، فكان اللقب الذي كون واحدة من العائلات الكبيرة في مصر.
كان والدها أيضا حسن أفلاطون مؤسس قسم علم الحشرات وعميد كلية العلوم في جامعة القاهرة وشاركت والدتها صالحة أفلاطون في نشاطات اللجنة النسائية في منظمة الهلال الأحمر المصري، كما أنها كنجلتها سيدة فضلت التمرد على عادات المجتمع، فحين انفصلت عن الوالد افتتحت داراً للأزياء في القاهرة، وهو ما كان له بالغ الأثر على الطفلة إنجي بشدة، فشجاعة والدتها وعزمها على العمل وهي امرأة مطلقة شكل ذلك مصدر إلهام لها، حيث كان حادثا غير عاديا في ذلك الزمن، فالنساء لا يجب ان يغادرن الحرملك بمعيار هذا الزمن.
درست إنجي في مدرسة القلب المقدس في القاهرة ثم التحقت بالثانوية الفرنسية، وكانت واحدة من أولى النساء اللاتي التحقن بكلية الفنون في جامعة القاهرة. ومنذ الطفولة أظهرت إنجي خلال فترة تعليمها اهتماماً متزايداً في الفن وباشرت منذ عام 1940 تدرّبها على يد الرسام والمخرج السينمائي كامل التلمساني المعروف بأعماله الفنية المتمردة بدرها على الأعراف الاجتماعية.
كان التلمساني باب أفلاطون للفن والسياسة، لما كانت تبحث عنه في الحقيقة، وفي البداية تعرفت على مجموعة الفنانين السرياليين وجماعة “الفن والحرية” التي أسسها في العام 1939 جورج حنين.
جدير بالذكر أن جماعة الفن والحرية من أهم الجماعات الفنية التي ظهرت في الأربعينيات، وأثارت قضايا كبرى في الأدب والسياسة، إلى جانب الفن التشكيلي، حيث كانت تسعى إلى التحرر من القيود الأكاديمية والأشكال التقليدية من الفن المنقول من أوروبا، وهو مافتنت به أفلاطون، وتلاقت فيه أهدافها معهم.
لاحقا تتلمذت إنجي بعد ذلك لمدة سنة على يد الفنانة مارجو فيلون المولودة في سويسرا قبل أن تلتحق بمرسم الفنان حامد عبد الله.
الاحتفال بإنجي أفلاطون على موقع جوجل
إنجي أفلاطون والسياسة
“في ذلك الوقت أيضاً تأسس أكثر من تنظيم شيوعي سري. وكنت أبحث تائهة عن أي انتماء. ذلك مايتفق مع اقتناعي بالاشتراكية العلمية، وهو سبيل جهادي في تحقيق مبادئي، وأخذت قراري بالعمل السري والعمل السري ليس هو الطريق المختار للأحزاب الشيوعية إنما هو الطريق الذي تفرضه عليها البرجوازية اذ تمنع أي مظهر من مظاهر النشاط الشيوعي الديمقراطي
لم يكن المجتمع الذي نزلت إليه يقبل بالاختلاط بين الجنسين إلا في حدود ضيقة للغاية. وكان عملنا السياسي سرياً فكيف اذاً يضم تنظيم سري فتيات وسيدات جنباً إلى جنب مع الرجال؟
هناك عقد الزملاء أنفسهم وهناك عيون المجتمع المرتبطة بنا وأبواق الرجعية التي تروِّج لإشاعات كاذبة ومشينة عن الفتيات الماركسيات بهدف تشويه سمعتهن وكفاحهن أمام الرأي العام
في تلك الظروف صار من الضروري اتخاذ خطوة جريئة للتغلب على هذه المشكلة التي كانت تهدد التنظيم بالتنويع وتحويل أنظاره عن المشاكل السياسية الرئيسة إلى مشاكل جزئية وعاطفية فلجأنا إلى خلق ‘قسم نسائي’ داخل التنظيم يفصل بين الجنسين من القاعدة حتى مستوى القسم ثم يعود الأمر طبيعياً في المستويات الأعلى، كان ذلك قراراً حكيماً وسليماً لأنه ساهم كثيراً في التغلب على مشاكل التخلف الموروثة والعقد الناتجة عنها كما أنه شجع كثيراً من المتزوجات على الإنضمام إلى التنظيم حيث لم يعد هناك مبرر لاعتراض الأزواج”
مقتطف من المذكرات
في مذكراتها تعتقد أفلاطون أن انتمائها الأيديولوجي الماركسي، اختيار شديد الاتساق مع طبيعتها المتمردة، الباحثة عن قيم العدل، والمساواة، ولكنه الاتجاه الذي حرمه القانون منذ العهد الملكي، وحتى فيما بعد، حيث كان النظام الملكي يجرم إنشاء أحزاب شيوعية، رغم وجود كيانات من كافة الإتجاهات الأخرى.
في خضم الحرب العالمية الثانية رفضت إنجي الذهاب لإغراء دراسة الفن في فرنسا، وانضمت في عام ١٩٤٤ إلى منظمة أسكرا الشيوعية. ومن العام لم يغيب الخاص عن أفلاطون حيث شغلت القضية النسوية حيزا كبيرا من تحركاتها.
كان لأفلاطون دورا مهما في عدد من القضايا النسائية، والتي منها حق الترشح في الانتخابات، والذي كان ممنوعا وحتى الفترة الناصرية، حيث لم يكن للمرأة دورا سياسيا شرعيا، رغم وجودها المحسوس.
بالتزامن مع ذلك كان هناك التيار النسائي المعروف لهدى شعراوي، والذي فرط عقده بعد وفاتها، وآخر يطلق عليه الحزب النسائي المصري، ومؤسسته السيدة فاطمة نعمت راشد عام١٩٤٢.
حاولت إنجي العمل في الحزب الموجود، وبالتعاون مع بعض من رفيقاتها، ولكن لفظهم الحزب، بطابعه القديم، وكرهه للعناصر الشابة، وبالمثل حاولت مع اتحاد بنت النيل وصاحبته درية شفيق ذات التوجه الشديد الليبرالية، وباءت محاولاتها بالفشل.
على أثر ذلك سعت إنجي لإنشاء تيار جديد يستوعب أفكارها المتمردة، والاشتراكية في ذات الوقت، والتي كان من أعضاءها شخصيات مثل الكاتبة لطيفة الزيات، وفاطمة زكي وآسيا النمر، وعنايات النيرلي، والتي سميت برابطة فتيات الجامعة والمعاهد المصرية، وذلك في منتصف عام ١٩٤٥.
عبر ذلك التيار لم تغفل إنجي قضايا المجتمع العامة خصوصا التحرر من الاستعمار، وشاركت في العديد من الفاعليات منها المظاهرة النسائية في يوم الشهداء ١٤ نوفمبر ١٩٥١، وضم الموكب آلاف السيدات والفتيات من جميع الطبقات، وكانت تتقدم المظاهرة سيزا نبراوي حاملة صورة لـهدى شعراوي، وبجانبها سيدة أخرى تحمل لوحة زيتية للشهيدة أم صابر أول شهيدة مصرية سقطت في منطقة القناة، حيث كان الكفاح المسلح بين الفدائيين والاحتلال في منطقة القناة على أشده خصوصا بعد إعلان النحاس إلغاء معاهدة ١٩٣٦ بين مصر وبريطانيا.
في منتصف الخمسينات سافرت إنجي إلى صعيد مصر، وشملت جولتها النوبة والواحات، كما تحول فنها شيئا فشيئا للموضوعات السياسية، بالتزامن مع الحقبة الناصرية، التي لفظت الشيوعية، وبالتوازي استلهمت مشاهد الحياة اليومية.
مزرعة (ازبا)، ١٩٥٣، مصدر الصورة: مؤسسة برجيل للفنون
إنجي افلاطون وتجربة السجن
“كنت أريد أن أرسم السجن لولا تحذير مدير السجن لي. وقد حدث ذات مرة أن جاء ضابط كبير منهم لا أتذكر اسمه ليفتش على السجن وطلب مقابلتي وسألني عما ارسمه وهل ارسم السجن أما لا فقلت له أن مدير سجن النساء يمنعني من رسم السجن فقال له: عندك إنجي افلاطون… هذه فرصة العمر، دعها ترسم كل شيء بحرية كاملة، هذا أمر ومن يومها انطلقت بلا قيود أو تردد أرسم وأسجل كل ما أريد داخل السجن، ومن أهم ما صورت داخل السجن انشراح وكان محكوماً عليها بالإعدام وتأجل تنفيذ الحكم عاما حتى يبلغ طفلها الفطام، وطبعاً المحكوم عليهم بالإعدام يوضعون في زنزانة بحراسة خاصة لكي لا ينتحرون ويرتدون ملابس حمراء. وطوال فترة انتظار تنفيذ الإعدام على انشراح كنت أشعر بالمأساة الكبرى وراء قصتها فقد قتلت وسرقت تحت ضغط الظروف القاسية والبؤس الفاحش، ولما طلبت رسمها قال لي المدير حسن الكردي إن هذا شيء كئيب، وفعلاً رسمتها هي وابنها، وكانت هذه الصورة من ضمن الصور التي صادرتها المباحث”
مقتطفات من مذكرات إنجي أفلاطون
من أعمال إنجي أفلاطون- المصدر: أرشيف إعلامي
نتج عن نشاط إنجي السياسي اعتقالها في مارس 1959، حيث لم يعد النظام الناصري يقبل النقد، أو العمل خارج عباءته، وذلك مع 25 مناضلات سيدات، في واقعة نادرة من نوعها حيث لم يعتاد المجتمع المصري القبض على النساء واحتجازهن بالنساء لسنوات.
قبيل القبض عليها ظلت إنجي لشهور هاربة من السلطات الأمنية، وخلال تلك الفترة واجهت الأمرين، ومع ذلك كانت تستعرض الأمر ببساطة عبر كتاباتها، حتى تم إلقاء القبض عليها، واكتملت معاناتها مع التحقيقات، ثم السجن، لأكثر من أربع سنوات ونصف، بالتزامن مع حملة اعتقالات كبرى، وموجة من إساءة معاملة المعتقلين السياسيين، والتي أدت إلى وفاة البعض منهم، تحت التعذيب.
داخل أسوار السجن حاولت أفلاطون الاندماج خصوصا في ظل شك الرفيقات في مدى صمودها وهي بنت الطبقة المخملية، خصوصا أنها كانت فترة قاتلة، حيث يحاول النظام القضاء على أي أثر للكيانات اليسارية، وأساءت معاملة كوادرهم داخل السجون كما ذكرنا، كما منعت عنهم في البداية أي تواصل مع العالم الخارجي، أو حتى قراءة الكتب، والجرائد.
أدى التنكيل بالسجناء، والأخبار المفزعة القادمة من سجون الرجال، إلى محاولات السيدات تنظيم الصف، واتخاذ خطوات في مواجهة هذا القمع، مستخدمين أدوات الاحتجاج المختلفة مثل الإضراب، للمطالبة بتحسين أوضاع اعتقالهن، وكان أول إضراب سياسي في تاريخ السجون النسائية.
استمر هذا الإضراب الذي دعمه الراي العالمي 17 يوما، وهي فترة طويلة لم تكن متوقعة، ولكنها تليق بأول أضراب نسائي سياسي في تاريخ السجون المصرية، على حد رؤية إنجي، وبعد أن مارست السلطة الكثير من الضغوطات النفسية لفكه.
خلال تلك المذكرات عرجت إنجي على تعاملها مع تفاصيل السجن كالزيارة، والتأديب الذي تعرضت له شخصيا نتيجة مخالفاتها بعض القواعد الهادفة للسيطرة على السجناء، وحتى التفتيش وما يخصه من امتهان لجسد الإنسان والاعتداء على خصوصيته.
تم الإفراج عن إنجي عام 1963 حيث رأت في ذلك التاريخ نهاية مناسبة لمذكراتها التي صممت على أن تكون على تماس مع العام، والذي تقاطع بالضرورة مع الذات..
في قصر الأمير طاز يوجد أكثر من ثمانين عملاً من أعمالها، ومجموعة من مقتنياتها الشخصية في القاهرة القديمة، وتضم مجموعة متحف: المتحف العربي للفن الحديث في الدوحة عدداً من أعمالها أيضا، كما يمكن مشاهدة لوحاتها في متحف الفن المصري الحديث في القاهرة.
كتاب: مذكرات إنجي أفلاطون من الطفولة إلى السجن
الناشر: دار الثقافة الجديدة