مجلة حق ومعرفة (10) – مخرجات تدريب صحافة حقوق الانسان
لِم "أين عمري؟" بالذات؟ .. "أين عمري" والعنف غير المرئي ضد المرأة
أريج محمد، حاصلة على تدريب صحافة حقوق الإنسان – أغسطس 2024
ثمة قضايا لم تكن يومًا بالمعاصرة ولن، بل كتب عنها الأدباء والمفكرون والناشطون، وستستمر الكتابة عنها وتحليلها مادامت مستمرة في التواجد، فلست أكتب اليوم من وجهة نظر سينمائية أو نقدية، بالرغم أن قامات فيلم “أين عمري” تستحق الإسهاب بداية من قصة إحسان عبد القدوس وصولًا للحضور الطاغي لماجدة كمراهقة وامرأة، لكن من منظور نسائي وشعور أنثوي بتوجّب السرد. في المرة الأولى التي شاهدت الفيلم فيها كنت على أبواب العشرين ولم أملك أي خلفية عنه فقط شعرت أن اسم الفيلم أغرى فضولي فتزامن عنوانه المتسائل “أين عمري؟” مع تساؤلي عن سنوات عمري القليلة. لم تستمر حيرتي كثيرًا حيث صارت قضيتي عند المشاهدة هي علية التي لم أستطع الحديث عنها كفاية حينها.
واليوم أفكر في علية المراهقة التي دفنت أحلامها والمرأة التي احتملت حتى صار الموت عندها عاديًا بل وكاد أن يكون مبهجًا حتى.
أفيش “أين عمري”.. المصدر: موقع في السنما
البداية من المدرسة وصولًا لظهور عزيز
تبدأ الحكاية بـ سنية هانم الجالسة مع صحيفتها تنادي على الدادة لإيقاظ علية. لطالما كانت الدادة مصدر أساسي للدعم في حياة علية فهي التي تسمع وتواسي، لكن سنية هانم تتدخل بالفعل فتراقبها وتؤنبها لمواعيدها غير المضبوطة. أكثر ما شغل بال علية وقتها كان مظهرها الذي تود تغييره فودت فك الفيونكات وترك شعرها مسدل. كانت تلك أكثر أمانيها إلحاحًا وقت المدرسة حتى ولو لم تكن أكبرها.
كانت مدرسة علية هي مدرسة الفنون الجميلة بمصر الجديدة وبالرغم من الرقي المتجلي باسمها لم يكن أسلوب المعلمين متحضرًا فنجد المعلمة تأمر الطالبات بالنباح في مشهد “هوهوات” ساخر لظنها أن إحداهن تنبح للسخرية منها، لتُصعق بعدها برؤية كلب بالفعل وقد كان ذاك كلب علية -بوبي- وهو جزء ليس بضئيل في القصة.
مشهد من فيلم “أين عمري”.. المصدر: موقع في السينما
تكررت فعلته مرتان تجلت فيهم قسوة أم علية تجاهها حيث لم تظهر في المرتين بمكتب المديرة. كانت تلك بداية ظهور نافذة عليا للدنيا ومخرجها من المآزق -عمو عزيز-، فلقد فعل ما توجب على الأم فعله حيث ظهر في المدرسة وطلب السماح لعلية، ولم تكن تلك سوى بداية شهامته وإظهار قلقه ودعمه في عينيّ سنية والمحيطين
الحياة قبل ظهور عزيز وبعدها
مشهد من فيلم “أين عمري”.. المصدر: موقع في السينما
لم تقتصر مواقف العم عزيز على أروقة المدرسة وغرفة المديرة، بل كان هناك حفلات يذهب إليها أصدقاء علية أحيانًا بعد المدرسة. تجلت نتيجة حرمان علية من تلك الحفلات على لسانها حينما قالت: “نفسي أكوي شعري وألبس جزمة كعب عالي”، “ما كل البنات بيلبسوا ويخرجوا”، و”عيشة تقصّر العمر”، حيث أراها جُمل تحمل في طياتها حقيقة سنوات علية ومن تتقاطع حكاياتهن معها. كانت تلك التقاطعات لا تتوقف عند الحفلات أو الفيونكات بل تمتد لصميم الشعور الإنساني والأنثوي، فكل مرة تم إسكات علية فيها هو إخفاء لصوتها كإنسان وطمث لهويتها كامرأة.
تكرر الوضع بدءًا من الأبلة التي رددت “هشش” ثم المديرة التي عنّفت علية عند محاولة شرحها لوضع الكلب قائلة “مش عايزة أسمع منك ولا كلمة”، وصولًا للأم التي كانت تحذّرها حتى من الحديث عند رؤية ما يعجبها قائلة “بصي وأنتي ساكتة”.
كل الصمت الذي ساد حياة علية وغلفه كان يتم تعويضه والاستماع لها من طرف ثالث، ولحسن حظ علية حينها لم يكن لأحد سلطة على سنية أمها سوى ذاك الطرف -العم عزيز- بدا شعور علية بالسعادة واضحًا في كل مرة حد خروج كلمات من لسانها توحي بافتقار الدعم والإنصات في حياته فقالت قبل ظهور العم عزيز “لو كان بابا موجود كان خرجني ووراني الدنيا”، وبعد ظهوره “الصبح يطلعني من المدرسة وبالليل يجيبني من الحفلة”.
الميلاد الأخير كمراهقة
مشهد من فيلم “أين عمري”.. المصدر: موقع في السينما
إن ابتعدنا عن حياة علية لوهلة لننظر بوضع سنية الأم الأرملة نجدها تميل لعزيز نسبيًا في أعين جميع المحيطين بدءًا من الدادة وعم عبده حيث لا تكاد ترفض له طلبًا يخص علية. سيتم تحطيم هذه النظرة في ليلة عيد ميلاد علية التي كادت ألا تكون أصلًا لولا محايلاته عندما رد عليها قائلًا “مفيش حفلة حتى في عيد ميلاها” لم يكن سبب الحرمان بالجلل كل ما في الأمر أن بوبي ركض للمدرسة مرة أخرى ولم تقبل المديرة أي وساطة هذه المرة لعدم فصل علية.
أُقيم عيد الميلاد وجاء أصدقاء علية وغنوا وظهرت هدية الأم مشابهة لجوهرها وأبعد مايكون عن تعريف الهدية فحملت منبه مؤكدةً لعلية “عشان ما يروحش عليكي معاد المدرسة تاني”، وصلت الهدية الحقيقية بعد مكالمة العم عزيز، حيث وجدت علية أحلامها الأنثوية من فستان وحذاء، وتركت شعرها وشعرت بالزهو أخيرًا، الزهو الذي كلفها سنوات كثيرة.
دعابة ثقيلة الظل
في المرات التي اشتكت فيها سنية لعزيز كان رده الفوري “بقت عروسة” ولم يكن من المتوقع لأحد أن يصبح وصفه حرفيًا لا مجازًا. طلب عزيز يد علية من أمها يوم عيد الميلاد فما كان من سنية إلا أن انتظرت انتهاء عيد الميلاد وسألت علية “بتحبي عمو عزيز؟” فكان رد علية بديهيًا بعد كل ما تلقته “أيوة مش بيجيب لي كل اللي نفسي فيه”، لتكمل سؤالها بخبر طلب عزيز بالزواج منها وكانت تعبيرات علية غير قابلة للوصف فقد فتحت فمها باندهاش مرتين ولثواني وقالت “أنا؟ يتجوزني أنا؟”
لم تكن علية المدهوشة الوحيدة، ففي بداية عرض عزيز دُهشت سنية لثوانٍ أيضًا، لكن كان الاختلاف في الاندهاش أن علية كساها الحماس راكضة للمطبخ حيث الدادة وزوجها قائلة ومكررة “جالي عريس”، فتسائل كلاهما مبتسمين عن العريس وأخبرتهم أن يخمنوا غير أن كل التخمينات كانت لتفشل وبعد معرفتهم قالت الدادة “بلاش هزار”.
صمتت الدادة بعدها، وكان الجزء الأكبر من النقاش بين سنية والدادة فقد وجدتها تبكي فسألتها أليست سعيدة؟ فاستمر صمت الدادة ولكنه لم يطل؛ لأن سنية حاولت فتح نقاش قائلة إن علية سعيدة، فردت الدادة “زي ما بتفرح بأي حاجة.. بفستان، بلعبة، بجزمة” ثم قالت لها سنية بصرامة “كل الستات تتمنى عزيز”، فردت عليها الدادة “الستات اللي من سنه مش عيلة بنت ستاشر سنة”.
لم تتوقف سنية بعد ردود الدادة ومجادلتها فقالت لها “بس هي بتحبه” فما كان من الداده إلا أن ذكّرتها “بتحبه زي أبوها”.
لم يكن ذاك النقاش لينتهي إلى أن قررت سنية مغادرة الغرفة قائلة أنها تعرف مصلحة علية لكونها ابنتها. كانت تلك محض كذبة في نظري؛ لأنه حتى الدادة متوسطة الثقافة وغير المدركة بقواعد التربية، والتي لا تغادر البيت كثيرًا وليست من الفئة النبيلة علمت أن مصير علية قاتم، وأنها مجرد مراهقة لا تعرف مصلحتها ولا شعورها الحقيقي الكامن وراء السعادة بالهدايا والخروج مرتين ظاهرهما للاحتفال وأصلهما الخروج من سجن الحزم؛ حزم سنية وتعليماتها وإخراسها لصوت علية، وحزمها عن مظهر الفتاة الذي لا يتوجب أن يكون مصدرًا معبرًا عن الأنوثة والدلال.
حتى الأغاني تستنكر ذاك الزواج
مشهد الزواج من فيلم “أين عمري”.. المصدر: موقع في السينما
لم تكن الدادة الوحيدة التي استشفت ذلك المصير أو استغربت من الزيجة، فقد عبّر كل شيء عن الوضع يوم الزفاف بدءًا من الأغاني التي لم يضاهي دقتها شيء، فكان هناك أغنية تقول “ياصغيرة وفي عز شبابك لسه يدوب داخلة ١٧”.
كما كانت تعليقات الحاضرين بالزفاف فاضحةً للآراء، فقالت المديرة وبعض السيدات الجالسات في الزفاف: عمري ما شوفت تلميذة بتتجوز ولي أمرها، بقالي عشرين سنة في التعليم.. “يليق بأمها”.
لا يتشكل العنف هنا في صورة ملموسة مثل ضرب أو صراخ بل هو عنف مدسوس. في نظري كانت علية هي الدليل على احتمالية أن العنف المحسوس القائم على المنع والحرمان لا يقل أهمية عن الملموس حيث قد يودي بنا للدمار لسنوات ولمصير قد يكون هو الأشنع.
ربما لا نستوعب ذاك المصير كمراهقات وشابات، لكن الحقيقة المؤسفة هي أن الطرف الذي يستوعبه قد يقودنا إليه قيادةً لا مرد منها.
أرى أن النتيجة الحتمية لقمع كل أشكال الأنوثة بدءًا من المظهر وصولًا للاحتفال بعيد الميلاد، هي القبول بأي منفذ وشباك حتي لو كان ذاك المنفذ عجوز ستيني لم يمنح سوى العاطفة الأبوية والقدرة على التصرف بأنثوية دون حصار. قد يصل البؤس لأن تكون تلك النافذه هي فقط تذكرة للعبور من عالم الفتيات المحرومات الممنوعات لعالم الهوانم. ومن عقبات تلك التذكرة هي احتمالية استغلال الطرف الآخر لذلك الحرمان في صور عديدة بدايةً من محاولة نيل الاستحسان والمحبة وصولًا لبيت الزفاف.
رقص، وبيانو رغم القهر
لم يكن هناك الكثير بشأن العلاقة الجنسية منذ اليوم الأول، فقد اتضح أن عزيز الستيني يعاني من مشكلة في القلب والتي ستؤثر على ثقته واستحقاقيته، لكن لن نسبق الأمور فثمة حدث يستحق التسليط أكثر وهو صالة البيت الجديد التي شهدت رقص علية مع نفسها حيث رقصت صارخةً في وجه عزيز عند محاولته تثبيطها “عايزة أرقص وأرقص وأرقص”، ولم يكن ذلك الموقف الوحيد الدال على الرفاهية والدلال غير المعهودين بحياتها، فقد تحدثت مع عم عبدُه كهانم، ونظرت لنفسها أمام المرآة بزهو، وبالبيت جربت البيانو حتى طرب الجار في البلكونة المقابلة من عزفها، ولم يتمكن عزيز من الطرب بعد رؤية نظرة الجار من الشباك. لم يتحدث في شيء وأغلق الشباك قائلًا لعلية “أنا خايف عليكي حتى من الهوا البارد” فما كان منها إلا أن قالت له “أنا بحب الهوا”، ولم يكن ذاك الموقف بغلق الشباك سوى بداية لكل الشبابيك التي ستُغلق بوجه علية، كان الشباك الأكبر هو حرمان علية من مدرستها، ورغم أن الحرمان أشعَر علية بسعادة قائلة “مفيش منبه ولا مدرسة” إلا أن علية في نهاية الأمر ليست سوى مراهقة تسعد في أحايين كثيرة بالتخفف من العبء.
عزيز الحقيقي
ننتقل لمرحلة أخرى في حياة وشعور عزيز حيث اجتمع مع سنية يحادثها عن رغبته بالذهاب مع علية للعزبة وما كان ذاك الحديث خاليًا من الكلمات التي عبرت عن خوفه وهشاشته ونقده لذاته فقال “كأنهم مستكترينها عليا”، “لازم أحطها في علبة قطيفة”.. ليجمّل من كونه سيضعها في علبة. كأنه نسى أن علية وافقت عليه للخروج من حياة فتيات العلب، وبدأت تظهر مكنوناته وطباعه بعد استقراره وحصوله على علية فقرر ترك بوبي قائلًا: “والكلب مش هنأخده معانا”. ظهر شكل حياة علية في العزبة سريعًا بعد وصولها. كانت وجوه الأختين طافحة بالبؤس الذي اتضح أن سببه عزيز وتحكماته وبالرغم من الوضع كانت رئيفة تحاول كسر هذه الدائرة أحيانًا كمدحها لعلية “يا حلاوتها تتأكل أكل”، بخلافها كان لسان سوسن فقالت “دي قد بنته، وزمانها متجوزاه عشان فلوسه”. كان حكمها قائمًا بالطبع على عدم معرفتها عن حياة علية سوى أنها فتاة من مصر، وحتى إن عرفت سيكون رأيها أن التحكمات بحياة علية لا تساوي شيئًا من التحكمات بحياتها.
الحياة بعد ظهور الفرس
مشهد ركوب الفرس – فيلم “أين عمري”
ظهرت الصورة المستقبلية منذ اليوم الأول عند مغادرة عزيز المنزل بعد الغداء تاركًا علية فيه مع شقيقتيه، لكنها لم تتأكد إلا عند أول صدام عند محاولتها ركوب الفرس الذي كان له نصيب كبير بحياة علية وقصصها في العزبة حيث كان بداية الصدام وآخره. قررت علية ركوب الفرس ذات يوم من فرط سأمها، ولكن لم تتمكن من الإمساك بها حتى وجدت نفسها ببيت مجهول مغشيّ عليها، وعندما فتحت عيناها كان هناك رجل غريب أمامها. كان الدكتور فؤاد صاحب الحصان الذي تربت معه الفرس، هو ذاك الرجل، وسيكمل لنهاية خطوط القصة. في طريق العودة أخذ يحدثها عن الحصان والفرس وينظر إليها من حين للآخر. عند الوصول للبيت كان وجه عزيز محتقن من الغضب. رد عزيز على هرب الفرس بسبب ربطها أنها إن كانت مكرمّة وتأكل وتشرب أحسن الأنواع فلا يتوجب أن تنزعج أو تهرب.
عند النظر بشكل أبعد نجد أن هذه الحملة تعكس فكر عزيز لا بشأن الفرس وحدها، بل النساء حين قال لعلية فور عودتها “هنا الستات ما بيخرجوش ابدًا”.
مصارحة واحدة لا تكفي
لم ينته موقف الفرس عند تحذير علية فقد كانت هناك عواقب غير حميدة تنتظرها حيث أغرم بها الدكتور فؤاد وذهب مع العمدة لبيته طالبًا يد أخت عزيز، واستقبلت رئيفة الخبر بفرح وسوسن باستغراب إلى أن ظهرت علية وعرفّها عزيز للدكتور والعمدة كزوجته، فانصرف الدكتور.
لم تستوعب الموقف إلا بعد صراخ عزيز أن ما من أحد يعرف شكل اخواته، أنهم لايخرجون وأعلن أنه “مفيش خروج لا لوحدك ولا معايا”.
لم تلتزم علية الصمت، بل انفجرت فيه بحقيقة مسئوليته عن كتم خبر زواجهم وحبس شقيقتيه فقالت “ليه محدش بيشوفني ولا يعرفني”. كان عيد ميلاد علية بعد هذه الحادثة بفترة وجيزة، وتزامن معه المصارحة الثانية غير أنها أوحت بالحزن والضياع أكثر من الغضب. شملت المصارحة التي كانت أقرب لانفجار -الأم- حيث ردت علية على سنية عند سؤالها عن احتفال عزيز “كان افتكر السنين اللي فاتت”، ثم أكملت بصيغة مصبوغة باللوم حين أخبرتها بشأن أطفالها المستقبليين وتغييرهم لحياتها: “مفيش حاجة حصلت ولا هتحصل، وأنتِ كنتِ عارفة إنه تعبان بالقلب. أنا خلاص يا ماما كنت وردة والوردة عايزة اللي يرعاها. جيت لقيت اتنين عوانس بقينا تلاتة”.
تتضح نظرة علية لنفسها والحياة التي تحياها في العزبة بهذه الجملة. أنثى انقطعت عنها سبل الحياة وحُرمت من احتياجاتها بدءًا من الخروج والتعليم وصولًا للجنس.
لم تطل زيارة الأم غير أن حالة إدراك علية وحسرتها هي التي لم تنتهي فبكت بكاءً مصحوبًا بالكلمات التي تنم عن شعورها المرير فعند سؤال عزيز عن سبب بكاءها قالت “بعيط على السنين اللي راحت من عمري وإني عايشة ميتة. اتجوزتك عشان أفرح وأشوف الدنيا وده أمل كل بنت”. بهذه البساطة والشمول تشرح علية أزمة غالبية النساء لا أزمتها منفردة. نود نحن المحرومات أن نرى الدنيا. يتلخص أملنا في الرؤية والتأمل والشعور بكينونة الأشياء لتكتمل كينونتنا.
بدأت تتغير وتتزايد نبرة علية من الحزن ل اللوم فقالت “حرمتني من كل حاجة حتى شبابي ”
ما تسبّب به كلًا من: محصول القطن، وسوسن.
لم يتوقف عزيز عند ذاك الحد هو أو غيرته وشكوكه فعندما وجد الهاتف الأرضي في غير مكانه المعتاد ذات يوم عند عودته سأل علية وتعجب عند سماع ردها بأنها وضعته بجانبها كيلا يطول انتظاره إن اتصل. انتظر أن يرن الهاتف واتضح أنها مكالمة بشأن أراضيه وأن محصول القطن بدأ يتأثر بسبب الدود فتمكنت العصبية منه وصرخ مكررًا “قطني أنا” حتى سقط مغشيًا عليه. قلقت علية وكان كل هذا وقت الفجر فلم تعرف من طريق سوى الوصول لدكتور فؤاد. كانت حالة عزيز متأزمة بالفعل، وتستلزم السهر لرعايته غير أنه حتى على فراش الموت نطق بكلمات تدل على مدى هوسه وشكوكه “محدش هيأخدك مني أبدًا”.استمرت غيبوبته ونزل الدكتور فؤاد لكن ثمة أعين رأته وما كانت سوى عينيّ سوسن التي قالت “ياعيني عليك يا اخويا” لأن عقلها لم يضع احتمالات سوى خيانة علية فقررت الركض لغرفة عزيز محاولة إيقاظه وتنبيهه لـ”البلوة اللي هو فيها”.
لم يعد الفستان الحل
صار العنف المحسوس ملموسًا هذه المرة وبأبشع طرقه فوقف عزيز ممسكًا بكرباجه ولم ينتظر من علية أي كلمة بل قرر حبسها بعد الضرب. أعتذر عند معرفته الحقيقة وعند دخوله بعدها وجدها باكيةً فسألها عن سبب الدموع فقالت “تقدر تحبسني زي ما أنت عايز لكن ما تقدرش تحبس الدموع في عيني”، وقرر وقت المصالحة مهاداتها بما يعرف أنها تحبه – فستان – فما كان منها إلا أن قالت وهي تحزم حقائبها “كبرت أوي هسيب لك الفساتين اللي اشترتني بيهم وهشتري نفسي”.
كان الكرباج في عينيّ عزيز ردع لعلية وحماية لشرفه لكن علية لم تصمت رغم العنف الواقع عليها فقالت “لو كنت خايف على شرفك كنت طلقتني، موتني؛ لكن أنت إنسان ما عندكش كرامة”. كان الرد على علية بصفعة وتهديد هو الأشد “إن خرجتي هضربك بالرصاص”.
نجد التدريج في العنف جليًا من العنف المحسوس كالحرمان وصولًا للتهديد بالقتل.
من أدهى صور العنف هو إيهام المرأة بأنها السبب وأنه رد فعل لا أساس، فقال عزيز عقب صفعه علية “ليه خلتيني أعمل كدة؟”، “أنا بتخيل كل نخلة إنها راجل”.. فنجد أن عزيز كان يحاول مع علية بالمحايلة ودس الخوف ثم يعود لجوهره الأصلي حيث الهشاشة وجنون الغيرة والشعور بالنقص، والخوف من هرب علية من بين يديه. كانت ردود علية تتسم بالمنطق رغم الغضب والحزن فقالت له “عشان كدة قفلت عليا الأبواب والشبابيك، لكن أنا ما اقبلش أكون جزء من ثروتك”.
حتى الفرس سأمت
لم يتوقف وعي علية عند الرد والكلام والغضب والقهر، فقررت الهرب من الباب الخلفي بينما كان يقرع باب الغرفة عليها ويهدّد بكسره. ركضت علية وقفزت وحاولت كسر باب الاسطبل لتهرب بالفرس، ولم تعرف مكانًا سوى بيت الدكتور فؤاد الذي حاول التحدث معها بالمنطق، ولم يرغب بالتفكير بعلامات الضرب على جسدها أو بحالتها الرثة بل أخبرها عن العادات والتقاليد. ردت علية رغم هشاشتها “بتدافع عن العادات والتقاليد حتى لو بتساعد على الظلم؟”.. “أنت خايف على نفسك وسمعتك لكن أنا هأقدر أساعد نفسي”. أرى شجاعة علية نابعة من أنها لا تملك ما تخسره أصلًا لا دائرة دعم ولا فرصة في حياة بين طيات العزبة بعد ماحدث من تشويه لسنواتها ثم جسدها.
لم يستمر الحوار طويلًا بين الدكتور وعلية ومالبثت علية أن خرجت حتى داهمها صوت عزيز وهاجمها فحاولت صده غير أن الرد على عنفه هذه المرة لم يكن منها بل من الفرس التي هاجمت عزيز حتى الموت، الفرس التي عاشت سجنًا يفوق سجن علية والتي كانت أكبر إسقاط لحياة علية.
استنكارات غير مجدية
رجعت علية في أول قطار لمصر الجديدة، وسرعان ما حاولت بدء عصر جديد غير أنها لاقت استنكارًا بشأن طريقة محاولتها. بدأ ذاك الاستنكار من الأم التي أرادت منها أن تضع اعتبار لموت الزوج، وتم استكمال الاستنكار من قِبل الدكتور فؤاد الذي عاود الظهور في حياة علية. لم تترك علية لكلًا من الطبيب وأمها مجالًا للتدخل والإنصات لاستنكارهم، بل واجهتهما بكلمات واقعية حتى وإن صُبغت بالغضب. قالت لأمها عند محاولة ردعها مرة “بت دي زمان لما كنت عيلة لما جوزتيني لراجل في سن أبويا”، وعند محاولة سنية الدفاع عن نفسها ردت عليها علية “ما حاولتيش مرة من المرات تخلصيني من العذاب اللي كنت فيه”، ففاض الكيل بسنية قائلة: “كفاية” ولكن لم تر علية أنه “كفاية”.
ستة عشر شمعة فقط
بالنظر بشكل موسع في أيام علية وقت عودتها نجد أن شعورها كان فائضًا من حركتها وكلامها فما إن دخلت البيت حتى نظرت لصورتها المعلقة والتي تظهر فيها بفيونكات
ثم بكت عليها، وأمرت عم حسين صباح يوم عودتها بفتح الشبابيك، وارتدت فستان واصطحبت “بوبي” لنزهة.
لم أشعر سوى أن علية تعيش كل المشاعر في ذات الوقت: الحسرة على سنواتها الضائعة، والحرية بفتح كل الشبابيك التي كانت مغلقة لسنوات، واستعادة “بوبي” وحياتها بالإضافة للفساتنين لأنها صارت امرأة. قررت رغم كل شيء الاحتفال بميلادها وكأنها مراهقة قائلة “لن أحسب السنين الفائتة سأضع ستة عشر شمعة فقط”.
ظهور عادل.. والركض من أجل الركض!
تم النظر لعلية وقتها أنها متصابية وكأنها عاشت عمر الصبا كله فتود العودة إليه مثلا. بعيدًا عن رأيي في نمط حياة علية بعد موت عزيز لكن تجلت وامتدت الأحكام عليها فقيل لها من فؤاد “اللي بيفوت القطر مش بيجري وراه”، ورغم عقلانية الجملة لحد ما أجد أن عظام علية افتقدت الركض حتى وإن كان ذاك الركض لمجرد الركض، كما أن بشرتها افتقدت الهواء والشمس. كان امتعاض علية من فؤاد من توقيت ظهوره لشعورها به كقيد جديد، وأنه لم يتواجد ليخلصّها من مرارة أيامها من قبل، بل جاء بعدما استقرت، فقالت له إنه لم يعرض حبه إلا بعد خلو الفرصة.
ظهرت في حياة علية شخصية ما ظهورًا مفاجئًا وسريعًا. الشخصية هي عادل الذي أعجبه شكل علية يوم نزهتها مع بوبي، فقرر مطاردتها. كان الإعجاب شبه متبادل رغم الفارق العمري فقد كان عادل كان في السنة الأولى من الجامعة. لن أسهب في جزئية عادل لكن بإمكاني تلخيص الوضع أنه كان يحوم حولها لكن يعجبها، وأرى أن ثمة احتمالات كثيرة لذاك الإعجاب بدايتهم الشعور بنضجها كأنثى ورقتها كشابة، والثاني الهرب من عينيّ فؤاد وإبعاده، ولا أغفل الهيئة الشكلية لعادل بالطبع الذي مثل دوره أحمد رمزي فاتن الشابات وقتها.
بعيدًا عن الأسباب لقد خرجوا معًا مرة لعبوا فيها بالباتيناج والعجل ولمست يده عند رؤيتها فؤاد.
كان يعتبر عادل علية شيئًا مبهرًا يود اقتنائه فحاول الإثبات لأصدقائه بتلك المرة في مراهنة أنها مغرمة به، ورغم ذلك لم يكن هذا أسوأ ما في الوضع فقد تعرّف عادل على امرأة خبيثة تملك ما يشبه شبكة الدعارة أوقعته في براثنها ودون علم منه أوقع علية معه فبدلًا من عزومة الأوبرا اصطحبها للحفلة بالبيت مجهول الهوية، وكانت مليئة بالناس فلم يكونوا حمقى.. لكنه صار سكرانًا وانشغل عن علية فصار هناك حيز ليتفرد أحد آخر بعلية التي بالطبع صدته لكن صدها لم يكن ما ردعه، بل صد مفاجئ من فؤاد.
فؤاد الذي لطالما صدته علية ولم تستوعب حتى حينها جوهر عادل بالكامل إلى أن ملأت الأحقاد قلب عادل من كلمات صاحبة الحفلة الخبيثة بشأن رجولته وأنه تعرض للخداع، فخرج وحاول الاعتداء على علية وركضت لأمتار على السلالم وفي الطريق حتى استطاعت الارتماء بأحضان فؤاد.
بعيدًا عن نهاية الفيلم التي لا أستطيع انتقادها لكونه من منتصف الألفية السابقة (١٩٥٦)، فلم تتعدد الخيارات أمام علية في الفيلم رغم إدراكها، ولم تتعدد الخيارات أمام غيرها في الواقع.
لقد كتبت كثيرًا من الجمل على لسان الشخصيات لأني أراها توضّح الصورة الكاملة وما وراءها فأرفقت ما تأثرت به من جمل دالة على شعور وواقع علية. يؤسفني أننا لا زلنا ندور بنفس الدائرة منذ التسعينات للآن، بل وأن البعض يرى أن علية ذات الستة عشر عاما لم تكن بقاصر لكونها مراهقة وليست طفلة بالعاشرة مثلًا ، لكني رغم أسفي أعرف أن تسليط الضوء والإسهاب في خبايا الشعور هو وسيلة للتحليل ولفت النظر؛ لأن السينما هي صوت لا يقل أهمية عن أي صوت آخر؛ ولأن هناك كثيرون مثل علية لكن يؤرقهم الذنب تجاه شعورهم بالنقم على نمط حياتهن، ولأنه حتى إن لم تتواجد آثار ملموسة للعنف لا يتوجب إغفاله، ولأن نهب سنين العمر وجعلها سنوات ضائعة هو عنف لا يُرى ولا يتم تسليط الضوء عليه بما فيه الكفاية.