مجلة حق ومعرفة (10) – “رفعت عيني للسما”.. فتيات البرشا يتمردن على القيود ويقفن على حافة الأحلام
نرشح لكم
الأحلام ليس لها حدود؛ هذا ما يؤكده الفيلم الوثائقي “رفعت عيني للسما” الذي يمثل تجربة فنية فريدة، حيث يقدم الفيلم مزيجا ممتعا من الواقع والأحلام، على الرغم من أن أبطال العمل ليسوا نجوم شباك وإنما مجرد فتيات يطمحن في تغيير الواقع الذي يريد أن يفرضه عليهم المجتمع.
الفيلم جرى تصويره على مدار أربع سنوات، ويقدم لنا لوحة واقعية حية للحياة في إحدى قرى الصعيد، حيث يتتبع أحلام ست فتيات من قلب صعيد مصر، وبالتحديد من قرية البرشا الصغيرة التابعة لمركز ملوي بمحافظة المنيا، حيث يستعن بالفن كسلاح لمواجهة القضايا التي تؤرقهن وغيرهن من المصريات عامة، والنساء والفتيات اللواتي يعشن في أعماق الريف المصري خاصة. ورغم الصعاب التي يواجهنها فإنهن يتمسكن بأحلامهن التي لا يرحب بها محيطهن ويخضن رحلة مليئة بالآمال والآلام أيضا من أجل تغيير نظرة المجتمع إلى المرأة.
يبدأ الفيلم بتوثيق بداية رحلة الفتيات لتأسيس فرقة مسرحية في قريتهن الصغيرة والتي تلقى سخرية ورفض حتى من ذوي الفتيات أنفسهن، حيث نجد في المشاهد الأولى للفيلم ماجدة مسعود، إحدى بطلات العمل، وهي تقف ومعها شقيقها في محل بقالة صغير مملوك للأسرة. تطلب ماجدة من شقيقها أن يأتي لمشاهدتها وهي تمثل فيسخر منها ويقول لها “يلا يا بتاعت المسرح”، ثم يواصل السخرية طالبا منها أن تمثل له شيئا ليضحك، وهنا تدرك ماجدة أنه يريد الضحك عليها وليس مما تمثله، فترفض وتخبره بأنها تعرف هدفه وهو السخرية منها ليس إلا.
ماجدة التي تتلهف على كلمة تشجيع من شقيقها، تقول له “إنت المفروض تفرح لي!”، وكأنها تطالبه بحقها البديهي في الدعم. لكن رد شقيقها كان كالصدمة الباردة، فبدلاً من مساندتها لتحقيق حلمها المشروع، يرد عليها بمقولة المجتمع الراسخة: “آخرتك ايه.. تتجوزي وتقعدي في البيت”، وكأن أحلامها وأهدافها لا تتعدى حدود الحياة التقليدية التي يراها المجتمع للمرأة.
ورغم السخرية وسهام النقد اللاذعة التي تستهدفهن، إلا أن فتيات البرشا الستة يصررن على الحلم، فيظهرن وهن ينصبن مسرحهن الخشبي البسيط، ثم تبدأ كل واحدة منهن في سرد أبرز ما تعانيه وتسلط الضوء على أحلامها. مونيكا يوسف، مثلاً، تشير إلى سخرية بعض نسوة القرية من صوتها ووصفهن له بأنه ” ذكوري”، ومع ذلك تؤكد أن حلمها بأن تصبح مطربة أقوى من أي تهكم فهي لا تتخيل حياتها دون الغناء، وكأنها ترسم لوحة بألوان زاهية على خلفية من الرمادي في تحدي لأولئك النسوة وللعالم أجمع بأنها متمسكة بحلمها حتى يتحقق.
وفي مشهد مؤثر داخل منزل هايدي سامح، وبينما تساعد والدتها في بعض المهام المنزلية تسألها الأم عن سبب شعورها بضيق في التنفس، فتتردد هايدي قليلا قبل أن تكشف عن السبب الحقيقي وهو العريس الذي حدثها عنه أبيها، ورغم عدم إجبارها على الزواج من هذا العريس، لكن جاء هذا المشهد ليؤكد أن طرح فكرة الزواج المبكر نفسها تمثل عبئًا ثقيلًا على قلبها الصغير، وهو ما ينسحب بالتأكيد على كل الفتيات، فما بالكم بأثر الزواج نفسه.
ينقلنا مخرجا العمل ندى رياض وأيمن الأمير بعد ذلك إلى سطح المنزل الذي ينصبون فيه مسرحهم من أجل التدريب، حيث تبدأ هايدي في الرقص وتتألق وسط زميلاتها في فرقة “بانوراما برشا”. حركاتها الرشيقة تتحول إلى لغة صامتة تعبر عن التحرر والتمرد على القيود. وكأن الرقص هو أكثر من مجرد هواية بالنسبة لها، إنه صرخة ضد العادات والتقاليد التي تحاول كبت روحها الشابة. ويبدو أن مخرجا العمل بنقلهم هذا المشهد التالي لمشهد الحديث عن شعور هايدي بضيق في التنفس يريدان أن يؤكد لنا أن المسرح هو أكثر من مجرد مكان للتعبير الفني، إنه ملاذ آمن لهؤلاء الفتيات، يمنحهن القوة لمواجهة تحديات المجتمع.
يأخذنا الفيلم بعد ذلك إلى قلب الحدث حيث تعرض فتيات “بانوراما برشا” أول عرض مسرحي لهن في الشارع تحت عنوان “محاكمة القرية” والذي يكشفن فيه عن جروح المجتمع العميقة مثل التحرش والزواج المبكر والعنف الأسري. فيسألن الجمهور: لماذا يُحرمن من أبسط حقوقهن، لماذا لا يحق لهن اختيار شريك حياتهن مثل الرجل، لماذا لا تستطيع الفتاة أن تختار ملابسها بحرية؛ ثم يطلقن العنان لأصواتهن القوية، وهن يغنين:”أنا جسمي مش خطية، ولا لبسي ده قضية، مش عارفة أمشي بحرية، ولا عارفة ألبس فستان”. وينتقدن نصرة المجتمع للمتحرش على حساب الفتاة الضحية ويؤكدن أن المتحرش هو المذنب والـ”جبان”.
بعد العرض الأول، التقطت الكاميرا جلسة للفتيات وهن يتحدثن فيها الانتقادات اللاذعة التي تطالهن. فقد تم وصفهن بشكل جماعي بأنهن عديمات التربية و”ذكور”. لكن بالرغم من ذلك يواجهن ذلك بسخرية مريرة تبدو كدرع واقٍ يحمي عزيمتهن من الكسر، فيقلدن طريقة ولهجة نساء القرية وهن يسخرن منهن وقولهن مثلا أن “مونيكا صوتها زي صوت الراجل”، وأن هايدي “مش متربية ولسانها طويل.. كمان هترقص؟!” وسؤال البعض: “لما يتجوزوا هينزلوا يرقصوا في الشارع”، وتأكيد البعض الأخر: “لو بنتي موجودة معاهم كنت قطعتها”، وهو الأمر الذي يكشف عن مستوى عميق من التنمّر والتحيز القائم على الجندر.
ورغم كل التحديات والعقبات، استمرت فتيات “بانوراما برشا” في تقديم عروضهن الفنية. ففي عرض “أتوبيس الأحلام” الذي كان بمثابة صرخة مدوية منهن، عبرت الفتيات عن آمالهن وطموحاتهن، وانتقدن عدم تشجيع المجتمع لهن وسخريتهم منهن ولماذا يريد أن يفرض عليهن نمطًا واحدًا للحياة. ثم يؤكدن – بتحدٍ وصمود – إصرارهن على تحقيق أحلامهن.
بعد ذلك، يوثق لنا مخرجا العمل زاوج مونيكا، حيث فتحت لها الحياة الزوجية آفاقًا جديدة خاصة مع قدوم مولودها الأول (ماثيو)، لكنها لم تطفئ بريق حلمها بالغناء. وعلى الجانب الآخر، كانت هايدي تواجه واقعًا مريرًا، حيث يمارس خطيبها تسلطا عليها ويريدها أن تترك الفرقة. أما ماجدة، فكانت تشعر بالوحدة في غياب زميلاتها، لكنا متمسكة بحلمها وسط هذا الواقع المتغير.
وفي ختام الفيلم، نرى ماجدة وهي تتجه نحو المستقبل، حاملةً معها أحلامها وطموحاتها. وفي الوقت نفسه، شهدنا ولادة جيل جديد من الحالمات، فتاة صغيرات يواصلن مسيرة “بانوراما برشا”، يحملن الطبول ويعلنّ للعالم أن الحلم لا يموت، وأن الإرث الذي بدأته هذه المجموعة من الفتيات سيستمر.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن وسط اللوم والانتقاد الذي واجهته فتيات “بانوراما برشا” في ظل عادات وثقافة اجتماعية تحد من حقوق المرأة وحريتها كان هناك شعاع ضوء وسط هذا الظلام، حيث نجد نموذج للرجل المساند لشريكته والداعم لها حتى تحقق حلمها والمتمثل في خطيب مونيكا. وكذلك نجد نموذج الأب المنفتح الداعم والمشجع لابنته المتمثل في والد هايدي، الذي يؤمن بحق ابنته في الاختيار، فشجعها على الارتباط بشاب أحبته مؤكدا لها أن “الحبس مش حرام”، لكنه في نفس الوقت حينما تتخذ قرارا بترك الفرقة المسرحية ويشعر بأن خطيبها وراء هذا القرار يحثها على الدفاع عن حقها في الحفاظ على حلمها. هذه النماذج الإيجابية تظهر لنا أن التغيير ممكن، وتكشف لنا الدور الهام الذي يمكن أن يلعبه الرجل في تمكين المرأة. فبدلاً من أن يكونوا عائقًا أمام أحلامهن، أصبحوا شركاء لهن في تحقيقها.
ندى رياض – مخرجة العمل
جدير بالذكر أن فيلم “رفعت عيني للسما” من إخراج ندى رياض وأيمن الأمير، ومن بطولة فريق مسرح بانوراما برشا: ماجدة مسعود، وهايدي سامح، ومونيكا يوسف، ومارينا سمير، ومريم نصار، وليديا هارون. وقد بدأ الفيلم رحلته في دور العرض بمصر في 6 نوفمبر 2024، حيث يعرض في 20 من دور العرض بالقاهرة والإسكندرية والأقصر وبنها والجونة، في واقعة غير مسبوقة لفيلم وثائقي، ويعد الفيلم إنتاجاً مشتركاً بين مصر وفرنسا والدنمارك والسعودية وقطر.
وكان الفيلم قد شارك في مهرجان شيكاغو في دورته الـ 60، الذي يعد من أقدم وأكبر المهرجانات في أمريكا وتقام فاعلياته في شهر أكتوبر الحالي. كما حصل فيلم على جائزة العين الذهبية لأفضل فيلم تسجيلي بمهرجان كان السينمائي الدولي بدورته 77 ليصبح بذلك أول فيلم مصري يفوز بالجائزة منذ تأسيسه. وقد حصل على إشادات نقدية محلية وعربية وعالمية حيث كتبت عن الفيلم كبريات الصحف العالمية منها اللوموند وفرايتي وسكرين دايلي. بالإضافى إلى مشاركة الفيلم في جولة عالمية بأكثر من ٣٥ مهرجان منذ عرضه في مهرجان كان منها Biarritz Film Festival و États généraux du film documentaire في فرنسا، AfrikaFilmFestival في المانيا، DER NEUE HEIMATFILMinaus في النمسا.
وفي تصريحات صحفية، قال المخرج أيمن الأمير إن فكرة فيلم “رفعت عيني للسما” جاءتهم هو وندى حين كانا يعملان على مشروع مع مؤسسة نسوية تدعم النساء اللاتي يعملن في المناطق النائية، مضيفا أن الأفكار في الفيلم طرحت نفسها بنفسها من خلال مشاكل هؤلاء النساء وتساؤلاتهن، وما يواجهونه في المجتمع، والعادات والتقاليد وكل هذه الأشياء.
أيمن الأمير – مخرج الفيلم
وقد تغيرت أحوال بطلاته وبدأن بشق طريقهن الفني، فقد جاءت ماجدة وهايدي إلى القاهرة؛ الأولى لدراسة التمثيل، والثانية لدراسة الرقص المعاصر، فيما طرحت مونيكا 3 أغنيات على مواقع الأغاني المعروفة، من بينها أغنيتها التي تؤديها بالفيلم “سيبوا الهوى لصحابه”.
أخيرا، يمكنكم مشاهدة “رفعت عيني للسما” في دور العرض السينمائي، حيث يعرض الفيلم في أكثر من 20 من دور العرض السينمائي بمختلف أنحاء الجمهورية. والفيلم مدته 102 دقيقة.