اصدارات

صورة مصر من المنفى: هل الأمر يستحق التضحية؟

مصطفى الأعصر
صحفي وحقوقي مصري – زميل غير مقيم بمعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط

بعد ٣ سنوات ونصف قضيتها في المعتقل بلا تهمة وبلا جريرة، متنقلًا بين السجون وأقسام الشرطة ومراكز الاحتجاز غير القانونية، صدر قرار بإخلاء سبيلي في ١٨ يوليو ٢٠٢١، ومثلما لم أعرف ما التهمة التي أودعتني المعتقل، لم أعرف لماذا أطلقوا سراحي. دخلت إلى المعتقل مكبلًا بالأصفاد معصوب العينين، وخرجت منه طليق الجسد وأسير الروح التي تعلقت بجدران الزنازين مع رفاق أبرياء.

لا أحد يدرك قساوة مغادرة الأصدقاء في جحيم المعتقلات، يطلقون على ذاك الشعور في علم النفس “عقدة الناجي”، وهو الشعور بالنجاة من مصير مؤلم ما زال كُثر يعيشون أهواله، نسأل أنفسنا لماذا نجونا وتركنا الآخرين يتألمون؟ 

كانت الحياة بعد المعتقل شبه مستحيلة، خاصة لصحفي وباحث مثلي لم يثنيه المعتقل عن قناعاته وأفكاره أو يرده عن عمله الصحفي المستند إلى مبادئ حقوق الإنسان، ولا يعرف لنفسه سبيلًا للرزق غير الكتابة. وجدت نفسي في مواجهة تحديات جديدة لا تقل جسامة عن تلك الموجودة داخل المعتقل، مع الفارق أني حرًا، أتمتع بملذات الحياة بما لا يقدر المعتقلون على الاقتراب من التفكير فيه، لكن داخليًا ما زلت أشعر بالقيود تتلبسني.

اضطررت للكتابة بأسماء مستعارة أو نشر مقالات بدون اسم، كي أُبقي نفسي بعيدًا عن أنظار الأمن، خفّضت نشاطي على مواقع التواصل الاجتماعي ولم أعد مشتبكًا مع الشأن العام كما من قبل، وظلت مشاهد المعتقل تلاحقني في النوم واليقظة، ورغم ذلك أدركت حقيقة خطيرة، أنني فقدت شيئًا لا يمكن تعويضه أو التعامل مع ضياعه، لقد فقدت الشعور بالأمان في وطني، الأمان بمفهومه الشامل وليس فقط المقتصر على الأمان الجسدي، لقد انتشرا الخوف والقلق ليتملكا من كل تلابيب الفكر، حتى بدأت أشعر مجددًا بتهديدات صريحة ومخاوف من العودة إلى المعتقل لأي سبب تافه أو بدون سبب، وتلك خطورة البقاء في دولة لا يحكمها القانون إنما أهواء الأفراد بما يملكونه من سلطات مطلقة تعطّل ضمائرهم.

 

خرجت من مصر في الربع الأخير من عام ٢٠٢٢ وأنا لا أعلم ماذا ينتظرني ولا أعلم موعد رجوعي، لكن الأكيد أنه هربًا من الملاحقات وهربًا من الشعور المتنامي بالخوف والمطاردة، تركت خلفي الأهل والأصدقاء والمقاهي والذكريات ورائحة البيوت والشوارع التي اعتدت السير فيها، وتركت خلفي مستقبلًا سُلب مني قسرًا وسنوات من عمري سُرقت في غياهب السجون، فشعرت أني متأخرًا بعقود عن أقراني، أحاول الركض لا كي أسبقهم أو أنافسهم، فالحياة ليست ماراثون، بل فقط لأستعيد موقعي من الحياة.

 

بعدما استقريت مؤقتًا في لبنان، شعرت للمرة الأولي بإحساس النوم دون الخوف من كسر باب المنزل مساءً لأن أفرادًا مسلحين ملثمين يأتون للبحث عني، لم يعد النوم قبل شروق الشمس عصيًا كما كان في مصر، يمكنني النوم مساءً دون خوف، مع ذلك لم أنجُ من ملاحقة الكوابيس والأحلام عن ذكريات تجذرت في عقلي.

احتاج الأمر مني شهورًا كي أتخلص جزئيًا من بعض الرواسب النفسية التي تركتها مصر بداخلي، بضعة أشهر حتى أتمكن من كسر الرهاب المجتمعي وبناء الثقة مع الغرباء، وأن أتكلم بنبرتي الطبيعية في الأماكن العامة عندما يتطرق الحديث إلى دروب السياسة والشأن العام، وألا أتعمد خفض صوتي والهمهمة في جلسات الأصدقاء على المقاهي، أو النظر في عيون كل الجالسين متفحصًا ربما أحدهم مخبرًا للأمن، وأن أسير في الشوارع دون خشيان خطوات الشخص الذي يسير خلفي، ظنًا مني أني قد أكون مراقبًا أو مطاردًا، وألا أستيقظ مذعورًا كلما سمعت خطوات أمام باب الشقة أو أصوات غلق الأبواب أو حركة المصعد، وألا أرتجف إذا مرت بجواري سيارة شرطة ترتفع منها ضوضاء الصافرة المزعجة، وألا أتجنب السير بعيدًا عن كل حاجز أمني، أو الخوف من كل من يرتدي زي شرطي أو عسكري أو يحمل سلاحًا.

 

تلك الرواسب مجرد غيض من فيض، أتخلص من بعضها رويدًا رويدًا، تداهمني في لحظات، تهزمني حينًا وأهزمها أحيانًا، وأتيقن أنني سأتعايش معها ما حييت، سأتفاوض معها كي نعيش معًا في سلام، ولكن ما يؤلم دومًا هي لحظات التفكّر في الأبرياء المعتقلين، ذلك ما لا يمكنني التفاوض معه.

 

بعد أكثر من عامٍ من خروجي من مصر، أشعر بالقليل من الراحة النفسية، والكثير من الإرهاق الذهني والبدني، وسيل جارف من الحنين والاشتياق، وتحديات متعددة، وضبابية في المشهد. لا أعلم أين تقودني خطواتي القادمة، أو بالأحرى ليس لدي رفاهية التخطيط لأبعد من ٦ أشهر، على الأقل حتى الآن، أؤمن أن هذا الوضع مؤقت، وأن السعي يجلب القليل الاستقرار والأمان، ويجب عليّ الاستمرار دون توقف حتى الوصول إلى برٍ آمن، فأيضًا لا أملك رفاهية التوقف عن السعي في بلد غريب وفي وضع حرج.

 

أحيانًا يراودني تساؤل حول جدوى ما أفعله، وهل مصر وطنًا يستحق التضحية؟ لا أملك إجابة قاطعة غير أني أرتبط شعوريًا ولا شعوريًا بهذه البقعة من الأرض، ولم أندم يومًا على ما فعلت، ولم أندم على سنوات المعتقل، ليس لدي الأسباب ولا القناعات المنطقية كي أسوقها إليك عزيزي القارئ المهتم، تمامًا كمن يؤمن بإله لا يراه ولا يدركه بجوارحه، لكنه يحبه ويحدثه ويبتهل ويصلّي إليه.

 

ما أنا واثق منه أنه لا أحد على هذه الأرض يستحق أن يعيش في خوف وجهل وفقر وجوع وكبت، وأن كفاح الشعوب مستمر منذ الأزل من أجل الخلاص من القمع والديكتاتوريات الحاكمة، وسيستمر هذا الكفاح إلى الأبد، لسنا أكثر من مجرد حلقة في سلسلة طويلة من التاريخ، لعبنا دورنا حسب قناعاتنا، نجحنا أو فشلنا تلك قضية أخرى، لكن النتيجة تراكمية، وأن المعتقل أو المنفى غير قادر على كسر إرادة إنسان حر وغير قادر على كتم صوت الحقيقة والتستر على المجرمين، وسوف يأتي يومًا للحساب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى