المفوضية المصرية للحقوق والحريات

بالخلاص ياشباب 16 عاما في السجون السورية..التفنن في الإذلال

في حين لا يصنف الكاتب والناشط السياسي السوري ياسين الحاج صالح كتابه “بالخلاص ياشباب” من أدب السجون، فإن الكتاب يعد وثيقة قوية وشاهد على أحد ديكتاتوريات المنطقة، ومقدمة لابد منها لتفسير ما آلت إليه القضية السورية لاحقا.

ولا يقتصر الكتاب على تجربة ياسين داخل السجون السورية، الذي قضى خلف أسوارها 16 عاما، بل امتد البحث إلى أحوال وتجارب مساجين آخرين، وفلسفته عن السجن، والسجان، والعديد من الخبرات، والتصورات، حول تلك التجربة، التي تشترك في العديد من سماتها مع ديكتاتوريات، وعموم الناس في المنطقة العربية، بما فيها مصر.

والكتاب أيضا مجموعة من المقالات التي كتبت على مراحل متباعدة، يمكنك تصنيفها كسيرة ذاتية أو أو رؤية نقدية أو حتى مقالات وصفية، غير مرتبة زمنيا، تصف حال السجن، والسجناء.

اعتقل ياسين الحاج صالح من كلّية الطب في جامعة حلب وفي مطلع الشباب بتهمة الانتماء إلى تنظيم محظور، تنقّل بين سجن حلب المركزي ومعتقل عدرا في دمشق، وأخيرا عايش رعب سجن تدمر سيئ السمعة، وذلك على مدار ستة عشر عاماً.

يخصص صالح فصول كتابه الأولى لحكايته الأساسية، وملابسات القبض عليه، والتهم الوهمية التي تشترك فيها جل الديكتاتوريات، لتبرر بها سرقة الأعمار، تحت راية لا للرأي المعارض.

“تساعد تجربة السجن على التأمل في النفس وموضعة النفس: ما ألاحظه بخصوص غيري، ألا ينطبق عليّ أيضاً؟ وإذا كانوا “هم” يقومون بتلك الأشياء السخيفة، فهل “نحن” لا نقوم بأشياء مماثلة؟ هذا تمرين على التفكير الانعكاسي، والتدريب المتكرر عليه تجربة ثمينة لتطور الوعي الذاتي ونمو الضمير. نسائل أفكارنا فنمتلكها، لا تصير ملكنا قبل المساءلة والامتحان؛ ونسائل أنفسنا فنمتلكها، ننتزعها من الجماعة والقبيلة والطبيعة”

غلاف الكتاب

بالخلاص يا شباب..تدمر الرعب

ينبع عنوان الكتاب من عبارة يتداولها السجناء تعبر عن تمنيهم الخلاص، وذلك في أعقاب تناول الطعام، أو ممارسة أي تفصيلة حياتية تمت لخارج الأسوار بصلة، وهي توازي عبارة “في الحرية” التي يتداولها السجناء المصريين، عقب كل مناسبة أو طعام شهي، فلا أعز على السجين من تمني العودة إلى حياته الطبيعية، والتخلص من الأصفاد، له ولمن حوله. 

يعيد صالح تذكيرنا بأن في الكتابة خلاص، ووسيلة للكف عن الهرب، والتخفيف من عبء الحكاية، ولكنه الشعور بخيانة النفس، والأصدقاء، الذي يجعلنا نعاود المحاولة، خصوصا في ظل سلطة لم تجبر الخاطر، ولم تعترف بظلمها، بل ما زالت تحافظ على ذاكرة الخوف.

وبالعودة لتجربة صالح، وتذكره لوحش “تدمر” ذلك السجن سئ السمعة الذي طالما خشاه المعتقلين، فلا معنى للاقامة فيه إلا أنك فعلت الأسوأ، والأسوء هنا كان في أعقاب انقضاء فترة العقوبة بالنسبة لكاتبنا، عندما رفض الخضوع لأوامر السلطة.

وذلك بعد أن انقضى حكم الـ 15 عام، وعرض عليه جلادوه العمل كمخبر لديهم، يكتب التقارير، ويشي بأصدقاؤه، كما جرت العادة، بتدريب الناس على الخيانة، ولكن مع رفض كاتبنا هذا الامتهان، كان “تدمر الرهيب” مصيره التالي.

ذلك السجن الذي اعترف كاتبنا بأنه توقع من هول المصير، أنه سيظل مجرد تهديد لن يتم تنفيذه خصوصا بعد 15 عاما من التنكيل به، والتعذيب “المعتدل” كما سماه.

وقد جرى اعتقال صالح من كلية الطب، في السنة الثالثة، بعد انتسابه إليها، بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعي السوري، حيث تعرض، في اليوم الأول، لـ”الدولاب” و”بساط الريح” .

والدولاب في اللهجة الشامية هو المقابل للكاوتشوك، حيث يجرى التعذيب عبر ربط يدي المعتقل بالدولاب، سواء من جهة البطن أو جهة الظهر ثم تعذيبه، أو بواسطة وضع المعتقل داخل الكاوتشوك، بحيث تلامس يداه قدميه، وتمارس عمليات التعذيب المختلفة عليه في تلك الوضعية.

التعذيب بالدولاب- رسم توضيحي

في حين أن بساط الريح يكون بربط المعتقل على قطعة من الخشب، إما مربعة أو لها شكل الجسم البشري، منقسمة إلى قسمين، والذي تمارس من خلاله عليه أساليب التعذيب المختلفة، كما يمكن طيّ البساط بحيث يلامس رأس المعتقل قدميه.

بساط الريح كوسيلة تعذيب – رسم توضيحي

كما يحظى المسجون بما نطلق عليه في مصر “التشريفة”، وهو أول ما يتلقاه السجين فور دخوله السجون، هي استقبال الجلادين أو عناصر “صناعات الموت”، بحسب توصيف الحاج صالح، لضحاياهم، عبر حفلة “فلقة”، حيث يعذب المعتقل بنحو 100 ضربة، على باطن القدمين، وتكون من نصيب الشيوعيين، ونحو 500 ضربة للإسلاميين، وجميعها بهدف كسر عين السجين.

أما تلك الأساليب وغيرها فلا يجاوزها في القسوة إلا الحياة أو ربما الموت في سجن “تدمر”، والذي قضى فيه كاتبنا عامه الأخير، ولتدمر ذاكرة قاسية في الذهن السوري، فهو السجن الذي جرت به وقائع مجزرة بشعة في عام 1980، حين قامت سلطات الأمن بأوامر من رفعت الأسد، باغتيال ما يزيد عن ألف سجين أعزل، عشية المحاولة المزعومة لاغتيال حافظ الأسد.

ذلك الاغتيال الذي حمل فيه أتباع الأسد جماعة الإخوان المسلمين المسؤولية. في الوقت ذاته؛ كلف رفعت الأسد (شقيق الرئيس حافظ الأسد) عناصره من سرايا الدفاع، وصهره الرائد معين ناصيف باقتحام سجن تدمر وقتل من فيه من المعتقلين.

 كما أن المصادر تؤكد مشاركة أكثر من 100 عنصر بمختلف الرتب في تنفيذ المجزرة، حيث نُقلوا من دمشق إلى مطار تدمر العسكري بواسطة 12 مروحية، ثم توجه نحو 80 منهم إلى السجن، ودخلوا على السجناء في زنازينهم وأعدموا المئات منهم رميا بالرصاص والقنابل المتفجرة. 

ووفق ما يتوفر من معلومات فإن جثامين القتلى نُقلت بواسطة شاحنات وتم دفنها في حفر أعدت مسبقا في وادِ يقع إلى الشرق من بلدة تدمر، وما زالت اللجنة السورية لحقوق الإنسان تُصرّ على مطلبها بالكشف عن أسماء الضحايا وأماكن دفنهم.

المصدر: الموقع الالكتروني للجنة السورية لحقوق الانسان

ظلت السلطات السورية محتفظة برائحة الخوف في ذلك السجن الرهيب، حيث كان يمارس به أقسى صنوف العذاب، وهنا أيضا مضى كاتبنا عامه السادس عشر، كعقاب له على استنكافه العمل كمخبر للسلطات.

هنا تدمر.. حيث الجحيم لا تنفتح أبوابه إلا لتلقّي الطعام الرديء أو العقاب، لا أخبار جديدة، لا حياة من أي نوع، فقط الفراغ، الذي لا يجاوره سوى أمراض السجن، وقلب السجان المريض، بينما يحاول السجناء تمضية الوقت بالكتب، والأقلام، متى توفرت، أو حتى الحرف اليدوية، في مواجهة الزمن.

ما بعد الأهوال.. حنين إلى السجن

كسر الكاتب أسطورة السجن، حين عبر عن رعبه من الأهوال التي يخوضها السجناء عبره، والتي لا تكتفي بحرمان الناس أعمارهم، ولكن تمتد إلى خبراتهم، فيعودون للحياة الطبيعية، منتقصين، أغراب بشكل لا يتفهمه المجتمع، وأفراده.

“لدي اقتراحان لتفسير الحنين إلى السجن. الأول أضيق نطاقاً، يُبرز صفة تحويلية أو «قربانية» لتجربة السجن، ولعله يفسر حنيني الشخصي أكثر من غيره. والثاني أوسع وأعم، يقرر أننا نحن إلى السجن لا رغم كوننا غير أحرار فيه، بل بالضبط لأننا نتحرّر فيه من عبء الحرية“.

ياسين الحاج صالح – المصدر “أرشيف”

كانت تلك أحد النظريات التي أوردها الكاتب في رؤيته لما بعد الخروج من السجون، والخلاص من أهواله حيا، وهو يحاول أن يفسر شعور ورد على ألسنة العديد ممن مروا بتلك التجربة، ألا وهو شعور الحنين.

بعد خروج المسجون مباشرة ينازعه شعور جارف بالحنين إلى العودة، وهو ما يفسره صالح بأنه، من يعبر ذلك الطقس “القرباني” يصبح إنسانا جديدا عاش التغيير، وقام به شخصيا، على عكس رتابة حياته الطبيعية، ولا يفوق ذلك الشعور إلا تجربة أكثر عمقا، وقدرة على التغيير، تغطي على الأولى.

نظرية القربان أو إعادة الولادة، يرافقها نظرية أخرى عن حمل الحياة الطبيعية، وعبء التحرر الذي يجثم على نفس السجين، فبحسب ياسين فإن أول ما يواجه السجين بعد أسابيع الحضانة القصيرة التالية للإفراج عنه، والذي يلاقي فيها اهتمام المحيطين، هو صعوبة حياته الجديدة الحرة. 

“إنه مطالب باتخاذ قرارات صعبة وتحمل مسؤوليتها بعد سنوات ممتدة كان فيها معفى من هذا العبء، لم أكن أرغب في العودة إلى الجامعة، لكن كنت مفتقراً إلى ثقة بالنفس تؤهلني لاتخاذ هذا القرار. بعد كل تلك السنوات في السجن، وجدتني حراً أكثر مما أطيق واحتمل. وسرعان ما رميت حريتي الفائضة هذه، واستسلمت لما يكاد يكون سجناً: استئناف دراسة الطب”، هكذا تعكس صالح تجربته الذاتية في تفسير مبررات الحنين إلى السجن الذي طالما حاولت أدبيات السجن تفسيره.

عوالم المعتقلين السياسيين 

لا ينسى كاتبنا العروج على الخلفية التاريخية لمولد هذا الجحيم، ويربط موجات الاعتقال السياسي في سورية المستقلة بأنظمة الحزب الواحد.

ويعتبر أول موجة كبيرة نسبياً من الاعتقال والتعذيب جرت في عهد الوحدة بين سورية ومصر 1961-1958 برئاسة جمال عبد الناصر، وكان ضحاياها من الشيوعيين أساساً؛ أما الموجة الكبيرة الثانية وقعت في العهد البعثي بعد شهور أربعة من الانقلاب البعثي الأول في مارس 1963. 

وبحسب كاتبنا ففي هذه الموجة فتك البعثيون بحلفائهم الناصريين، فأعدموا العشرات منهم وسجنوا المئات، وبلغ بهم الأمر أن حولوا التعذيب إلى فن يتغزلون فيه.

 وفي العهد البعثي الثاني، 1970-1966، اعتقل بعثيون موالون للعهد الأول وناصريون وشيوعيون وغيرهم. وحين استولى حافظ الأسد على الحكم في سورية بانقلاب عسكري عام 1970، دشن عهده بموجة اعتقالات جديدة، طالت رفاقه البعثيين الذين انقلب عليهم. 

يؤرخ كاتبنا لقمة الجحيم وفوهته بفترة الثمانينات حين بلغ عدد المعتقلين لأول مرة في تاريخ البلاد الألوف، وناف على العشرة آلاف، ولأن المعتقلين كانوا من خلفيات سياسية وأيديولوجية متنوعة: إسلاميون شيوعيون بعثيون موالون للحكم البعثي العراقي المنافس، ناشطون أكراد، ومن عامة السكان، ممن شاء حظهم أن يشي بهم أحد المخبرين الذين يُحتمل أن عددهم تجاوز في عقد الثمانينيات عدد المعتقلين السياسيين أضعافاً.

وعن هذا يقول: “لأن الشيء الروتيني وقتذاك كان تعذيب السجناء وعدم تقديمهم للمحاكمة لوقت طويل. ويعتقد أن ألوفاً من معتقلي الإسلاميين أعدموا في سجن تدمر الذي كان التعذيب يوميا فيه حتى أواخر تسعينيات القرن العشرين. وتتحدث منظمات الحقوق الإنسان عن حوالى 15 ألفاً أعدموا هناك، جُلّهم من الإسلاميين”. 

وخلال كتابته يحرص ياسين على لعب دور الحقوقي، ولا يكتفي باستعراض تجربته الذاتية، إذ يعرج على أحوال المعتقلين السابقين، والجدد، آنذاك، أي ما قبل 2012 حيث الطبعة الأولى للكتاب، ويستعرض شهاداتهم المختلفة عما واجهوه فيما بعد المعتقل، من علاقتهم بالجنس الآخر، وحتى علاقتهم بالأسرة، والمجتمع عموما، ومحل العمل إن وجد، فغالبا ماينتهي الأمر بالبدء من الصفر، مع محاولة تحمل شروط الخروج من السجن التي تجعلك مراقب امنيا، طوال حياتك.

وربما كانت الثورة السورية في بدايتها، أمل الجميع بوصول أصواتهم إلى العالم أخيرا، بعد أن جثم على صدورهم الحكم الشمولي لعشرات الأعوام، مستهينا بمصائرهم أحد الأسباب التي جعلت صالح أحرص على التوثيق، وربما تشجيع المعتقلين على توثيق معاناتهم، أملا في الوصول إلى العدالة الاجتماعية يوما ما.

ولكن للأسف بعد سنوات قليلة من صدور الكتاب خطفت “داعش” زوجته سميرة خليل المعتقلة السابقة أيضا في سجون الأسد هي وبعض من رفاقها العاملين في المجتمع المدني، ولم تظهر أبدا منذ تلك اللحظة، كذلك فضل كاتبنا حياة المنافي، عن أهوال الأسد، وفي انتظار العدالة المخطوفة.

“الكتب تضاعف الحياة، تمنحنا حياة فوق حياتنا وصحبة مختلفة. وفي هذه الحياة المضافة نحن أحرار، ومع هؤلاء الأصحاب نتخفف من الابتذال الذي يغمر، حتماً، علاقتنا برفقاء السجن. لكن الشيء الأهم أن الكتب تغيّرنا، تمنحنا أنفساً جديدة، تعيد تشكيلنا، تجدد أرواحنا، وهو ما يساعد في الحفاظ على عافيتنا الجسدية بالذات. وبدلاً من أن تكون وسيلة إنساء فإنها تصنع لنا سجل وجود وإدراك جديد، وذاكرة إضافية.”

ياسين الحاج صالح

الكتاب: «بالخلاص، يا شباب! 16 عاماً في السجون السورية»

 224 صفحة، قطع متوسط.

المؤلف: ياسين الحاج صالح

الناشر: دار الساقي، بيروت. 

الطبعة الأولى 2012

1 اعتقل ياسين الحاج صالح من كلّية الطب في جامعة حلب وفي مطلع الشباب بتهمة الانتماء إلى تنظيم محظور، تنقّل بين سجن حلب المركزي ومعتقل عدرا في دمشق، وأخيرا عايش رعب سجن تدمر سيئ السمعة، وذلك على مدار ستة عشر عاماً.
2 والدولاب في اللهجة الشامية هو المقابل للكاوتشوك، حيث يجرى التعذيب عبر ربط يدي المعتقل بالدولاب، سواء من جهة البطن أو جهة الظهر ثم تعذيبه، أو بواسطة وضع المعتقل داخل الكاوتشوك، بحيث تلامس يداه قدميه، وتمارس عمليات التعذيب المختلفة عليه في تلك الوضعية.
3 يؤرخ كاتبنا لقمة الجحيم وفوهته بفترة الثمانينات حين بلغ عدد المعتقلين لأول مرة في تاريخ البلاد الألوف، وناف على العشرة آلاف، ولأن المعتقلين كانوا من خلفيات سياسية وأيديولوجية متنوعة: إسلاميون شيوعيون بعثيون موالون للحكم البعثي العراقي المنافس، ناشطون أكراد، ومن عامة السكان، ممن شاء حظهم أن يشي بهم أحد المخبرين الذين يُحتمل أن عددهم تجاوز في عقد الثمانينيات عدد المعتقلين السياسيين أضعافاً. 
4 لأن الشيء الروتيني وقتذاك كان تعذيب السجناء وعدم تقديمهم للمحاكمة لوقت طويل. ويعتقد أن ألوفاً من معتقلي الإسلاميين أعدموا في سجن تدمر الذي كان التعذيب يوميا فيه حتى أواخر تسعينيات القرن العشرين. وتتحدث منظمات حقوق الإنسان عن حوالى 15 ألفاً أعدموا هناك، جُلّهم من الإسلاميين”. 

Exit mobile version