اصدارات

باب : ماذا تعرف عن؟ .. خميس والبقري ضحايا المحاكمات العسكرية

لا يكاد يمر عيدا للعمال دون أن تتجدد ذكرى العاملين ضحايا – الحق في شروط عمل عادلة – خميس والبقري، واللذين جاء الحكم الظالم عليهما في لحظة فارقة من تاريخ مصر، وعقب حركة ضباط 23 يوليو بعشرين يومًا فقط، إذ صدقا أن يوما جديدا قد بزغ وان الحكم أخيرا للناس، فكانا أول من دفع ثمن هذا الحلم بحياتهما، لتظل ذكراهما خالدة في الوجدان العمالي.

 للمفارقة فإن جمال عبدالناصر الذي اتخذ القرار بإعدام الشابين هو الذي سبق وبكى ضحايا مذبحة دنشواي الشهيرة، وذكر في خطاباته بزهران “شهيد الاحتلال الإنجليزي”، في الواقعة الشهيرة التي تعد أحد محركات الثورة ضدهم لاحقا.

ترجع واقعة إعدام العاملين إلى بعد عشرين يومًا من أحداث يوليو 1952ـ حين قام عمال منطقة كفر الدوار بتنظيم وقفة احتجاجية احتجاجا على شروط العمل المجحفة، وأملا في الثورة الجديدة، حينها تم نقل العديد من العمال إلى فرع كوم حمادة في أسوان، وهو ما أثار غضبهم، فضلا عن التدني البالغ في الأجور، والحوافز، وتدهور سكن العمال وقد ظن العمال أن بعد “23 يوليو” أصبح الجو العام مناسبا لتحقيق مطالبهم ونيل حقوقهم.

خميس والبقري أثناء المحاكمة – المصدر: من الأرشيف الصحفي

لكن ما حدث لم يكن يجول بخاطر أيا منهم، فقد قامت قوات الأمن حينها بمحاصرة المصنع وأطلقت النيران على العمال فسقط أحد العمال قتيلا، وهو ما دعا العمال في اليوم نفسه لعمل مسيرة لباب المصنع وعندما سمعوا بحضور الرئيس محمد نجيب رددوا هتافات “يحيا القائد العام .. تحيا حركة الجيش” وعندما تأخر نجيب – الذي لم يحضر- خرج العمال لانتظاره عند “مدخل المدينة”.

وفى طريقهم مرت مسيرة العمال على أحد نقاط الجيش وألقى العمال التحية عليهم، إلى أن وصلت مسيرة العمال لأحد الكباري وعلى الجانب الآخر منه كانت قوات الأمن تتربص بهم مشهرين أسلحتهم.

وبشكل مفاجيء انطلقت رصاصة في اتجاه قوات الجيش التي راح ضحيتها أحد العساكر، وعلى الفور بدأ الجنود في فتح النار على العمال، وتم القبض على مئات العمال وتشكلت على وجه السرعة المحكمة العسكرية لمحاكمة ما سماه إعلام السلطة بـ “العصاة”.

صورة لأعضاء المحكمة العسكرية – المصدر “أرشيف”

تكونت المحكمة العسكرية من كل من: بكباشي عبد المنعم أمين، ويوزباشي جمال القاضي ، وصاغ محمد بدوي الخولي ، وصاغ أحمد وحيد الدين حلمي ، وصاغ خليل حسن خليل ، وبكباشي محمد عبد العظيم شحاتة، وقائد أسراب حسن ابرهيم السيد ، ويوزباشي فتح الله رفعت ، وممثل الإتهام صاغ عبده عبد المنعم مراد .

إمعانا في الإجحاف نصبت المحاكمة العسكرية في فناء المصنع بالمخالفة لكل معايير المحاكمة العادلة، واتهم مئات العمال بالقيام بأعمال التخريب والشغب وكان من ضمن المتهمين طفل عمره 11 عامًا، وكانت الطامة الكبرى حين حكم بالإعدام على العامل محمد مصطفى خميس البالغ 18 عامًا، وتم النطق بذات الحكم على العامل محمد عبد الرحمن البقري البالغ من العمر 19.5 سنة وكان يعول خمسة أبناء ووالدته الفقيرة، هذا فضلاً عن عشرات الأحكام بالأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة .

 “يا عالم ياهوه .. مش معقول كده.. هاتوا لنا محامي علي حسابنا حتى .. داحنا هتفنا بحياة القائد العام .. داحنا فرحنا بالحركة المباركة .. مش معقول كده”.

من كلمات الشهدين خميس والبقري 

العمال يفترشون الارض أثناء محاكمتهم عسكريا – المصدر “أرشيف صحفي”

يوثق الكاتب طه سعد عثمان الأحداث فى كتابه “خميس والبقرى يستحقان إعادة المحاكمة” بالقول: ” التقى محمد نجيب بـ”خميس” وساومه بأن يخفف الحكم إلى السجن المؤبد فى مقابل قيامه بالاعتراف على رفاقه العمال، وإدانة حركتهم ولكن خميس رفض، وتم تنفيذ حكم الإعدام على الشهيدين “محمد مصطفى خميس” و”محمد عبد الرحمن البقري” فى يوم 7 سبتمبر من نفس العام بسجن الحضرة بالإسكندرية تحت حراسة مشددة وسط أصوات “خميس” و”البقرى” اللذان صرخا قبل الإعدام “حنموت وإحنا مظلومين”.

 أما محمد نجيب الذي وقع حكم الإعدام بنفسه، ووافق عليه، فأورد فى كتابه “شهادتى للتاريخ” ما يلي : “التقيت بهما وكنت مقتنعا ببراءتهما بل وكنت معجبا بشجاعتهما ولكن صدقت على حكم إعدامهما تحت ضغط وزير الداخلية – فى إشارة إلى جمال عبد الناصر” لمنع تكرار مثل هذه الأحداث” وكان موقف باقى الاعضاء باستثناء خالد محى الدين ويوسف منصور صديق اللذان رفضا الحكم أشد سوءا، بينما كتب “عبد اللطيف البغدادي” فى مذكراته: “كان يجب تنفيذ الحكم بالإعدام لمنع حدوث هذه الأحداث”.

أرشيف الصحافة المصرية عن الواقعة

في مقال لها في جريدة الأهرام روت الكاتبة صافيناز كاظم ما جرى يوم الإعدام فتقول:

” مر مأمور السجن في الساعة الرابعة فجرا بالغرفتين رقم 62 و63 من غرف الإعدام وسأل البقري: نمت كويس؟ فقال البقري: المظلوم لا ينام ، عاوز أخويا ياخد مراتي وأولادي وأمي و3 جنيه من أماناتي ويروحوا للقائد العام محمد نجيب ويقولوا له ، ويسأل المأمور خميس: عاوز حاجة؟ فيرد خميس : عاوز أقول إني مش غلطان ، المحامي ما جابش الشاهد محمد عبد السلام خليل ، أنا عاوز شهود نفي وإعادة القضية من جديد ، أنا حاموت مظلوم ورب العباد أنا مظلوم ، تقول له أمه : شد حيلك يا محمد ، يقول لها خميس : يا أمي أنا مش ممكن أعمل حاجة وحشة ، فاكرة المحفظة اللي لقيتها وبها عشرة جنيه مش قعدت أدور لما لقيت صاحبها ؟.. لحظة إدراك البقري أنه يساق لتنفيذ الإعدام يبكي بشدة : ولادي لسه صغيرين .. عاوز أقابل القائد العام محمد نجيب ، الله هو الحُكم بيتنفذ كده علي طول؟ .. يارب علي الظالم ، ثم طلب كوبا من الماء وقال: يارب أنا رايح أقابلك دلوقت وأشتكي لك ، يارب ده أنا عسكري وكنت رايح أخدم العهد الجديد .. يا ناس محدش يعمل في معروف يخليني أقابل القائد العام محمد نجيب؟ ..وظل خميس يسأل الواعظ : فقهني في ديني .. هل من مات مظلوما مات شهيدا؟ .. وكانت هذه آخر تساؤلاته قبل صعوده شهيدا مظلوما إلي دار الحق “.

في ديسمبر 2013 قام المخرج الكبير محمد كامل القليوبي بإنتاج فيلم بعنوان “اسمي مصطفى خميس، وهو الفيلم الذي قال عنه في أحد حواراته الصحفية ” أنه حلم ما زال يراودني منذ خمس وثلاثين سنة، إذ يكشف عن ملف غامض صمت عنه المصريون منذ أكثر من واحد وستين عاما، وتحديدا عندما بدأ حكم العسكر الذين تولوا السلطة لأول مرة في التاريخ المصري، هذا الصمت المصري كله وهذا التأخير في إنجاز الفيلم سابقاً يعزى إلى أن الملف شائك ويثير حساسيات كثيرة لدى أطراف عديدة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى