المفوضية المصرية للحقوق والحريات

المفوضية المصرية تواصل جهودها للتصدي لجريمة الاختفاء القسري.. ضعوا حدا لهذا الانتهاك

ضحايا الاختفاء القسري هم أشخاص سُلبت حريتهم وجرى إخفائهم عن أسرهم وأحبائهم وباتوا خارج حماية القانون؛ ويحدث الاختفاء القسري عندما يتم اختطاف شخص ما أو سجنه على يد موظفي الدولة أو طرف ثالث بإذن أو دعم أو موافقة من الدولة، يليه رفض الاعتراف بمصير الشخص ومكان وجوده. وحينما يختفي شخص ما، يكون هناك خطر كبير في تعرضه للتعذيب أو القتل.

ووفق “الأمم المتحدة”، يُعَرَف الاختفاء القسري بثلاثة عناصر متراكمة؛ الحرمان من الحرية ضد إرادة الشخص المعني؛ ضلوع مسؤولين حكوميين، على الأقل بالقبول الضمني؛ رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده.

وتعتبر ممارسة الاختفاء القسري على نطاق واسع أو منهجي جريمة ضد الإنسانية؛ ولأن مصر شهدت خلال السنوات الماضية ارتفاعا كبيرا في حالات الاختفاء القسري، وقفت منظمات المجتمع المدني في البلاد ومن بينها المفوضية المصرية للحقوق والحريات، للتصدي لهذه الجريمة التي طالت كثير من المواطنين والسياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان. تلك الجريمة التي لها أثر أليم في نفوس أسر هؤلاء المختفين المتأرجحة مشاعرهم بين الأمل واليأس.

البداية

بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو من العام 2013، توسعت الأجهزة الأمنية وعلى رأسها قطاع الأمن الوطني التابع لوزارة الداخلية في ممارسة جريمة الإخفاء القسري بحق المواطنين بشكل منهجي ومستمر وعلى نطاق جغرافي واسع، وفق حملة “أوقفوا الاختفاء القسري”. وتراوحت فترات الاختفاء القسري للضحايا بين أيام وسنوات، إلا أن النمط الأكثر شيوعا خلال هذه الفترة هو الاختفاء القسري لفترات قصيرة يليه ظهور الضحايا كمتهمين أمام النيابة، وهو ما يعد استمرار لإصرار السلطات في مصر على التطبيع مع الاختفاء القسري باعتباره جزء أساسي من عملية القبض والاعتقال بالمخالفة للدستور والقانون والمواثيق الدولية.

وتبدأ رحلة الاختفاء القسري منذ لحظة اقتحام المنزل من قبل رجال الأمن وإلقاء القبض على الضحية بدون إذن أو سند قانوني ليجد نفسه معصوب العينين في إحدى أماكن الاحتجاز غير الرسمية والتي غالبا ما تكون أحد مقرات الأمن الوطني ليبدأ مسيرته مع مختلف أشكال التعذيب على يد أفراد الأمن الوطني من أجل انتزاع الاعترافات والحصول على المعلومات.

“أوقفوا الاختفاء القسري”

لإيقاف هذه الجريمة التي غالبًا ما تُستَخدم كاستراتيجية لنشر الرعب ضمن المجتمعات، حيث تثير الشعور بعدم الأمان على المجتمع ككل وليس على أقارب وأحباء المختفين قسريا فقط، أطلقت المفوضية المصرية للحقوق والحريات، حملة “أوقفوا الاختفاء القسري” في 30 أغسطس 2015 بالتزامن مع اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، بهدف نشر الوعي بخطورة جريمة الاختفاء القسري على المجتمع المصري، وضرورة الوقوف أمام ممارسة تلك الجريمة في ظل توسع السلطات المصرية في ارتكاب الجريمة بحق المواطنين المصريين. 

وانخرطت “المفوضية المصرية” في تقديم الدعم النفسي والإعلامي والقانوني لضحايا الاختفاء القسري وذويهم، والسعي للكشف عن مصير الأشخاص المختفين قسريًا، وملاحقة مرتكبي الجريمة، ومكافحة الإفلات من العقاب، والحصول على تعويض وجبر الضرر للضحايا وذويهم. وكذلك الضغط على صانعي القرار لمعالجة القصور التشريعي في القوانين المصرية من خلال إصدار قانون تجريم الاختفاء القسري، والانضمام إلى الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري.

وعلى مدار السنوات الثمانية الماضية، عكفت “المفوضية المصرية” ولا تزال على التصدي لجريمة الاختفاء القسري من خلال عدة مسارات، أولها وأهمها تسليط الضوء على معاناة أهالي المختفين قسريًا في رحلة البحث عن مصير ذويهم، وتوثيق حالات الاختفاء القسري وإصدار تقرير إحصائي السنوي – في اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري – يرصد عدد المختفين قسريا، وتقديم الدعم القانوني لأهالي المختفين لإجبار السلطات على الكشف عن مصير أبنائهم.

توثيق حالات الاختفاء 

يُعد توثيق حالات الاختفاء القسري أحد أبرز مسارات التصدي لهذه الجريمة ومحاسبة مرتكبيها، ولهذا منذ إطلاق “المفوضية المصرية” لحملة “أوقفوا الاختفاء القسري”، تصدر الحملة تقريرا إحصائيا بشكل سنوي يرصد ويوثق حالات الاختفاء القسري، آخرها الإحصاء الصادر في 30 أغسطس 2023 الذي وثقت من خلاله الحملة تعرض 821 شخصًا للاختفاء القسري خلال الفترة بين أغسطس 2022 – أغسطس 2023، ليصل بذلك إجمالي عدد الأشخاص الذين وثقت الحملة تعرضهم للاختفاء القسري إلى 4253 حالة.

ومن المقرر أن تصدر حملة “أوقفوا الاختفاء القسري” التابعة للمفوضية المصرية – بعد صدور العدد التاسع من مجلة “حق ومعرفة” – تقريرها السنوي في نهاية أغسطس 2024، الذي يوثق اختفاء مئات الأشخاص قسريا بينهم عشرات لم يظهروا حتى كتابة هذه السطور.

ووفقا لتوثيق “المفوضية المصرية” شهد العام 2019 أكثر حالات الإخفاء القسري بـ 927 حالة. وهذا هو العام الذي شهد اندلاع مظاهرات 20 سبتمبر 2019 التي طالبت برحيل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وجرى قمعها والقبض على مئات الأشخاص في أعقابها، وتعرض بعضهم للإخفاء القسري. وخلال أحداث سبتمبر وثقت حملة أوقفوا الاختفاء القسري” تعرض 459 شخصا للاختفاء القسري لفترات قصيرة داخل أقسام الشرطة ومعسكرات الأمن المركزي، تعرضوا خلالها للتعذيب وسوء المعاملة سحب شهادات تم جمعها، حتى عرضهم أمام النيابات. كما وثقت الحملة ظهور بعض المختفين قسريا منذ فترات بعيدة كمتهمين على ذمة القضية 1338 لسنة 2019 ، لعل أبرزها كان ظهور “خالد يسري زكي” الذي تعرض للاختفاء القسري للمرة السادسة من داخل مقر احتجازه.

ويعد العام 2015 ثاني أكثر الأعوام التي شهدت حالات اختفاء قسري في مصر بـ 816 حالة، ثم 2016 الذي وثقت فيه المفوضية المصرية للحقوق والحريات اختفاء 691 شخصا قسريا. والعامان 2015 و2016 في الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي.

حالات ظهور بعد اختفاء لأكثر من عام

في فبراير مطلع العام 2023، أصدرت عدة منظمات حقوقية بيان مشترك طالبت فيه بإجراء تحقيقات مستقلة بخصوص ظهور ما لا يقل عن 40 مختفي قسرا لسنوات أمام نيابة أمن الدولة، وأدانت قرار النيابة بحبسهم جميعا بعد إخفائهم لمدد تجاوز بعضها 3 سنوات، واعتبرت ظهور هؤلاء المواطنين بعد إخفائهم المطول يدحض إنكار السلطات المصرية المتكرر تفشي هذه الممارسة الممنهجة.

ووثقت حملة “أوقفوا الاحتفاء القسري” في الفترة من أول أغسطس 2022 وحتى نهاية يوليو 2023 ظهور 56 من ضحايا الاختفاء القسري بعد أعوام من الاختفاء القسري، وتراوحت فترات الاختفاء بين عام وأربعة أعوام، حيث تعرض 34 من الضحايا للاختفاء عام 2019، في حين ظهرت ضحية واحدة من المختفين عام 2018، و 15 ضحية من المختفين في 2021 ، وضحية واحدة من المختفين عام 2022، وقد ظهر 31 من الناجين بعد تعرضهم للاختفاء القسري لثلاث سنوات، وظهر 8 من الضحايا بعد أربع سنوات من الاختفاء القسري، كما ظهر 11 بعد عام من الاختفاء.

ومن بين 4253 حالة وثقت الحملة تعرضهم للاختفاء القسري لا زال 412 حالة قيد الاختفاء فيما ظهرت الحالات الأخرى بعد مدد إخفاء تراوحت بين أيام وحتى أكثر من عام، ولعل العام 2019 هو الذي شهد أكثر الحالات ظهورا للأشخاص الناجين من الاختفاء بـ 927 حالة ظهور، ويليه العام 2015 في المرتبة الثانية بـ 814 حالة ظهور، ثم العام 2016 ثالثا بـ 691 حالة ظهور.

تقديم الدعم القانوني

وعلى مدار السنوات الماضية قدمت “المفوضية المصرية” الدعم القانوني للعديد من ذوي ضحايا الاختفاء القسري للكشف عن أماكن احتجازهم، حيث أقامت دعاوى قضائية عدة أمام القضاء الإداري لإلزام وزارة الداخلية بالإفصاح عن أماكن تواجدهم وهو ما ساهم في ظهور بعض من الضحايا أمام النيابات متهمين على ذمم قضايا سياسية. كما حصلت المفوضية على أحكام قضائية بإلزام “الداخلية” بالكشف عن مكان احتجاز عدد من الضحايا علما بأن بعض الضحايا ظهروا قبل حتى صدور حكم في الدعاوى المقامة للإرشاد عن مكانهم.

هناك عدة إجراءات أساسية تساعد “المفوضية المصرية” أهالي الضحايا على اتباعها لما لها من أهمية لإجلاء مصير ذويهم وحفظ حقوقهم التي يتم انتهاكها؛ وأول هذه الإجراءات هي السؤال عن ذويهم في قسم الشرطة التابع لمحل سكن الضحية، وتكمن أهمية هذا الإجراء في إثبات تاريخ ومكان واقعة القبض، حيث يكون حجة قانونية في حالة إذا ما جاءت محاضر الضبط من قبل الأمن الوطني مخالفة للواقع، حيث أن أغلب المقبوض عليهم، يتم احتجازهم بدون وجه حق أو إخفائهم قسريًا علي حسب رغبة ضابط الأمن الوطني.

بعد ذلك، من حق الأهلية تحرير بلاغ أو محضر في قسم الشرطة التابعين له بواقعة القبض على ذويهم. لكن يواجه أهالي الضحايا في هذه الحالة تعنت كبير من أقسام الشرطة في تحرير محاضر وبلاغات الاختفاء القسري وترفض أقسام الشرطة تحرير بلاغ يفيد بإلقاء القبض على الضحية؛ وفي هذه الحالة يجب على الأهلي تقديم بلاغ إلى النيابة سواء النيابة الجزئية أو النيابة الكلية.

لكن للأسف تتجاهل النيابة العامة – في كثير من الأحيان – الاستجابة للإجراءات القانونية المتعلقة بالإبلاغ عن الاختفاء القسري والإفصاح عن مكان احتجاز المختفين قسريًا وتقديم مرتكب هذه الجريمة للمحاسبة، وذلك رغم أن القانون المصري ينص أن النيابة العامة مسئولة عن ضمان تنفيذ جميع إجراءات القبض والاحتجاز بما يتماشى مع القانون وضمان عدم انتهاك حقوقهم في التواصل مع ذويهم ومحاميهم وتعريفهم بالتهم المنسوبة إليهم.

وتعد هذه سياسة عامة تنتهجها الدولة، ففي عام 2015 أصدر الرئيس عبدالفتاح السيسي قانون 94 لسنة 2015 “قانون مكافحة الإرهاب” والذي أعطي النيابة العامة الحق في حبس المتهم بدون توجيه تهمة اليه لمدة 28 يومًا- 14 يومًا قابلة للتجديد مرة واحدة- بالاضافة إلى الحق في عزله عن العالم الخارجي وعدم تمكينه من التواصل مع أسرته أو محاميه إذا كان هذا سيعرض مصلحة التحقيق للخطر، وأعطاهم سلطات سعة بالمخالفة للدستور المصري والقانون الدولي وذلك في مواده رقم 40 و 41 و42، بالإضافة إلى عدم تجريم الاختفاء القسري صراحة في الدستور والقانون. بالاضافة الى تعديل المادة رقم 189 من الدستور المصري في عام 2019 والتي تجعل تعيين رؤساء ووكلاء النيابة بقرار من رئيس الجمهورية، الأمر الذي يقوض استقلال النيابات العامة ويضع قيودا حول قرارات النيابة ويجبرها بشكل ضمني على انتهاج نفس سياسات الدولة خوفًا من العقاب والعزل والفصل.

وفي حال رفض النيابات تحرير هذه البلاغات، يتم تقديم بلاغ للمستشار النائب العام ويحرر بلاغ بمضمون الواقعة بغرض حصول تحقيق ويتم قيد البلاغ وإحالته إلى النيابة المختصة للتحقيق في الواقعة. وفي حال طالت مدة الاختفاء القسري ولم يصل لذوي الضحايا ردًا على التلغرافات البريدية التي تم إرسالها ولا يجدون طريقًا للابلاغ في الأقسام أو النيابات أو تم حفظ البلاغ في أغلب الأوقات، يتم اللجوء إلى القضاء باعتباره واحدًا من أهم سبل تحقيق العدالة، حيث يُرسل محامو “المفوضية المصرية” إنذارًا إلى وزير الداخلية بصفته، لطلب الإفصاح عن مكان احتجاز الضحية والإفصاح عن مصيره أو ظهوره على ذمة قضية في حالة كان مطلوباً، وفي حالة ظهوره على قضية يقوم محامي الدولة بدفع ما يثبت ظهوره على ذمة قضية والإفصاح عن مكان احتجازه. أما في حالة عدم الرد فبعد انقضاء مدة الإنذار، ينشأ قرار سلبي بالامتناع – أن وزير الداخلية لم يفصح عن مكان الضحية – وذلك لأن وزير الداخلية عليه واجب دستوري وقانوني بسبب المكانة التي يترأسها علي رأس قطاع الداخلية والشرطة وهو مطالب قانونيا بحماية المواطنين وفقًا للدستور والقانون، ومعرفة أماكنهم سواء كان موجودًا في سجن أو قسم أو مكان احتجاز غير رسمي، وهنا ترفع الدعوي حول إلقاء القبض على الضحية بدون سند قانوني متمثلًا في إذن قضائي، بالإضافة إلى إرفاق ما يثبت زمن و واقعة القاء القبض عليه من خلال الأوراق الرسمية التي قدمت من الأهالى كالتلغرافات البريدية أو تحرير محاضر في أقسام الشرطة أو النيابات، بحيث تقدم أوراق رسمية تثبت واقعة القبض.

وهنا – بعد نظر الدعوى- تصدر محكمة القضاء الإداري – في الغالب – قرارًا بقبول بقبول الدعوى وإلزام الداخلية بالإفصاح عن مكان الضحية، حيث يشكل الامتناع عن الإفصاح بمكان الشخص قرارا سلبيًا مخالفًا للدستور والقانون ومن ثم يتعين على القضاء إلغاؤه والإفصاح عن مصير الضحية.

ويعتبر الحكم الذي أصدرته المحكمة الإدارية العليا في أبريل 2017، بإلزام وزارة الداخلية بالإفصاح عن مكان احتجاز الطبيبة جرى القبض عليها يوم 18 أبريل 2014 واخفاؤها قسريًا حكما يعتبر هو الأول من نوعه في مثل هذه القضايا والذي قالت المحكمة فيه في حيثيات حكمها “إن الثابت من الأوراق أن الطبيبة المختفية قسريا تدعى «أسماء خلف شنديد عبدالمجيد»، وتعمل طبيبة بمستشفى صحة المرأة بأسيوط، ونائب مقيم بمستشفى جامعة أسيوط، وذكر شقيقها أنها اختفت منذ 18 أبريل 2014 أثناء عودتها إلى منزلها بسوهاج إثر قيام قوات الشرطة بالقبض عليها – وهو ما لم تنكره الجهة الإدارية الطاعنة – وتم تحرير المحضر رقم 2536 لسنة 2014 إداري أول أسيوط بذلك ولم يعثر لها على أثر في السجون المصرية – بحسب رد الجهة الإدارية الطاعنة – ولا يزال مصيرها غير معلوم”.

واستندت المحكمة في حكمها على أن من أهم واجبات وزارة الداخلية هي الحفاظ على حياة المواطنين، والقيام بواجبها في التحري والكشف عن مكان تواجد أي مواطن سواء كان حيًا أو ميتًا وفي حال تقديم ما يفيد اختفاؤه، بالاضافة الى اثبات ذلك في وثائقها ومستنداتها، وأن ما دون ذلك يعتبر إخلالا بالأمن والنظام. وأوضحت “وسيصبح التزام وزارة الداخلية وواجبها في المحافظة على أرواح المواطنين ليس إلا تسجيلاً في سطور ومداداً على ورق بغير حياة دون أدنى فائدة تُرجى أو أمل يُؤتى أو حق يُستأدى”. وأشارت المحكمة إلى الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم 61/177 في ديسمبر 2006، بعدم جواز تعريض أي شخص للاختفاء القسري تحت أي ظرف كان حيث جريمة ضد الانسانية بموجب القانون الدولي، وأن على كل دولة طرف تجريم الاختفاء القسري في تشريعاتها، وان على كل دولة اتخاذ التدابير الملائمة للتحقيق في جرائم الاختفاء القسري وتقديم المسؤولين إلى المحاكمة وتحميلهم المسؤولية الجنائية كاملة بشأن ما ارتكبوه من انتهاكات، وأنه لا يجوز التذرع بأي أمر أو تعليمات صادرة من سلطة عامة أو مدنية أو عسكرية لتبرير جريمة الاختفاء القسري.

أحكام قضائية

ولأن أحكام مجلس الدولة لها حجية ولا بد أن تنفذ وفقًا لقانون الإجراءات الجنائية وقانون المرافعات، اتجهت المفوضية المصرية لإقامة العديد من الدعاوى لإجلاء مصير بعض ضحايا الاختفاء القسري، وذلك بعد سلك طريق إرسال البلاغات وإرسال تلغرافات للنائب العام.

على سبيل المثال للحصر، في 11 يونيو 2019 جرى القبض على الباحث العمراني إبراهيم عز الدين بالقرب من محل سكنه وتعرض للإخفاء القسري، فتقدم محامو “المفوضية المصرية”، ببلاغ للنائب العام حمل أرقام 8077 لسنة 2019 عرائض النائب العام، يطالبون فيه بالكشف عن مكانه. وحّمل البلاغ، وزارة الداخلية، المسئولية الكاملة عن أمن وسلامة إبراهيم، وأكد على حقه القانوني والدستوري في الكشف عن مكان احتجازه وأسباب هذا الاحتجاز، والتواصل مع ذويه ومحاميه. كما تقدم محامو “المفوضية المصرية” بدعوى أمام محكمة القضاء الإداري حملت رقم 56026 لسنة 73 قضائية، ضد وزير الداخلية (بصفته) للمطالبة بالكشف عن مكان احتجاز إبراهيم عز الدين، وقبل شهر من صدور الحكم في الدعوى ظهر “عز الدين” أمام نيابة أمن الدولة العليا – بعد ستة أشهر من الاختفاء القسري – حيث قررت النيابة حبسه على ذمة القضية رقم 488 لسنة 2019. 

وعند صدور قرار من محكمة جنايات القاهرة في 27 ديسمبر 2020، بإخلاء سبيل “عز الدين” بتدابير احترازية. جرى – أثناء إنهاء إجراءات إطلاق سراحه – تدويره في يوم 2 يناير 2021 على ذمة القضية رقم 1018 لسنة 2020 حصر أمن دولة، بذات الاتهامات التي واجهها في القضية الأولى. وفي 26 أبريل 2022 وبعد أكثر من عامين ونصف في الحبس الاحتياطي تم إطلاق سراحه. ويعد ما جرى مع “عز الدين” أحد أشكال التضيقات الأمنية التي تواجهها المؤسسات الحقوقية في مصر لإجبارها على عدم القيام بدورها في الدفاع عن حقوق الإنسان.

وفي طعن آخر، قضت في 25 مايو 2019، في الطعن رقم 42736 لسنة 73 ق في الشق المستعجل بوقف تنفيذ القرار السلبي بامتناع وزير الداخلية بصفته من الإفصاح عن مكان المواطن (م. أ). كما قضت الدائرة الأولى حقوق وحريات بمحكمة القضاء الإداري في 14 ديسمبر 2019، في الطعن رقم 42733 لسنة 73 ق بوقف تنفيذ القرار السلبي بامتناع وزير الداخلية من الإفصاح عن (أ. ش) المقبوض عليه بتاريخ 21 مارس 2018.

أهداف محددة

ويعد المدافعون عن حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين أهداف محددة للسلطة التي توسعت منذ العام 2013 في ارتكاب جريمة الإخفاء القسري، ولعل أبرز مثال على ذلك طبيب الأسنان مصطفى النجار، الناشط السياسي والبرلماني السابق، الذي انقطع التواصل معه بعدما أبلغ زوجته أنه في مدينة أسوان جنوبي مصر، قبل أيام من جلسة محاكمته مع آخرين بتهمة إهانة القضاء في سبتمبر عام 2018. 

وبعد أيام، تلقت زوجته مكالمة هاتفية من شخص مجهول على هاتف المنزل يفيد بأن زوجها قد ألقي القبض عليه وﺄنه ﻣﺣﺗﺟز ﻟدى اﻟﺷرطﺔ ﻓﻲ ﻣﻌﺳﻛر اﻟﺷﻼل اﻟﺗﺎﺑﻊ ﻟﻘوات اﻷﻣن اﻟﻣرﻛزي ﻓﻲ أﺳوان. وهنا لعبت “المفوضية المصرية” دورا مهما في محاولة الكشف عن مكان البرلماني السابق، حيث قدمت الدعم القانوني لأسرته واتخذت معها العديد من الإجراءات للاستدلال على مكان احتجاز البرلماني السابق، كإرسال تلغرافات عديدة للنيابة العامة ووزارة الداخلية، ثم لجأت إلى إقامة دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري في يوليو 2019 بتوكيل من شيماء علي عفيفي، للمطالبة بالإفصاح عن مكان احتجاز زوجها الدكتور مصطفى النجار.

وحملت الدعوى رقم 65032 لسنة 73 ق ضد وزير الداخلية (بصفته) طالبت فيها بوقف تنفيذ ثم إلغاء القرار السلبي بالامتناع عن الإفصاح عن مكان احتجاز “النجار” المقبوض عليه بتاريخ 19 سبتمبر 2018، مع ما يترتب على ذلك من أثار على أن يُنفذ الحكم بمسودته ودون إعلان.

وفي 18 يناير 2020، قضت المحكمة بقبول الدعوى شكلا، وبوقف تنفيذ القرار المطعون فيه وما يترتب على ذلك من آثار، وهو ما يعني إلزام وزارة الداخلية بالكشف عن مكان اختفاء مصطفى النجار، الذي كان أحد أبرز وجوه ثورة 24 يناير من الشباب، إذ كان عضوا في ائتلاف شباب الثورة. لكن رغم هذا الانتصار القانوني إلا إن وزارة الداخلية لم تكشف إلى الآن عن مكان احتجاز النجار. ورغم هذا لم يثني ذلك “المفوضية” عن مواصلة التزامها في التصدي لهذه الجريمة.

حياة ذوي الضحايا تتحول إلى جحيم

وعن الأثر الذي تخلفه جريمة الإخفاء القسري في نفوس أسر هؤلاء المختفين، قالت شيماء عفيفي، زوجة البرلماني السابق والسياسي مصطفى النجار، المختفي منذ ما يقرب من ألفي يوم، في حوار سابق مع حملة “أوقفوا الاختفاء القسري” إن “الثلاث سنوات الماضية هي أصعب ثلاث سنوات في حياتي وحياة ابنائي، واجهت الكثير من الأزمات، بدءا من أن ولى أمر أبنائي غير معروف المصير، واجهت مشاكل في التحويل من مدرسة لأخرى، في انتقال ابنائي من مرحلة إلى أخرى في كافة التفاصيل التي تخص دراستهم وحياتهم، إضافة إلى المعوقات القانونية، فهناك أيضا أنني مسئولة الآن عن كل شيء عن ابنائي وبيتي وعملي وعمل مصطفي، كل ذلك دون أن أعرف أين زوجي، وإذا كانت الرسائل غير الرسمية بأنه بأمن الدولة، فلماذا لا نراه لماذا لا يظهر على ذمة قضية بعينها، أليس من العدل أن أعرف مكان زوجي وأن يعرف ابنائي ووالدته التي زاد عليها المرض منذ اختفاء ابنها، اليس من العدل أن ترحموا أسرة مصرية من ماكينة الشائعات التي تنخر في قلوبهم، وتحول حياتهم لجحيم”.

وأكدت زوجة السياسي المختفي قسريا، مصطفى النجار، أن الاختفاء القسري عقاب جماعي ليس للمختفي فقط بل لأسرته بكاملها. وقالت: “لا أحد يعلم ما نعانيه نتيجة الاختفاء القسري، فاتخاذ قرار بإخفاء أشخاص هو بمثابة عقاب جماعي، ولدي سؤال طوال الوقت لماذا الاختفاء القسري،ـ في حين يمكنك أن تتخذ إجراءات قانونية وتحقيق في النيابة ويمكن لنا أن نراه ونتواصل معه نطمئن عليه نعرف أخباره، إنما الاختفاء القسري جريمة مكتملة الأركان”.

ويبدو أن معاناة أسر المختفين قسريا لم تكن كافية بالنسبة للسلطة، حيث وثقت حملة “أوقفوا الاختفاء القسري” أشكالا متعددة لاستهداف الأسرة، لعل أبرزها هو استهداف المحامي إبراهيم متولي، منسق رابطة أسر المختفين، الذي تعرض في رحلته للبحث عن مصير نجله المختفي منذ أحداث الحرس الجمهوري في 8 يوليو 2013، للتوقيف قسريا يوم 10 سبتمبر 2017 داخل مطار القاهرة أثناء توجهه إلى سويسرا لتلبية دعوة الفريق الأممي المعني بحالات الاختفاء القسري وغير الطوعي لحضور وقائع الدورة رقم 113 ومناقشة حالة اختفاء نجله “عمر متولي”. تعرض إبراهيم متولي للاختفاء القسري حتى ظهر متهما بالتواصل مع جهات أجنبية لدعمه في نشر أفكار الجماعة التي أسسها على خلاف القانون على ذمة القضية رقم 900 لسنة 2017 حصر أمن دولة عليا. لم تتوقف محاولات التنكيل بإبراهيم متولي عند هذا الحدث، فقد ظل قيد الحبس الاحتياطي يعاني الإهمال الطبي لأكثر من عامين حتى قررت نيابة أمن الدولة العليا إخلاء سبيله في 14 أكتوبر 2019، إلا أن وزارة الداخلية ظلت تماطل في تنفيذ القرار ليتعرض للإخفاء القسري مرة أخرى حتى ظهوره يوم 5 نوفمبر 2019 أمام نيابة أمن الدولة العليا متهما على ذمة القضية 1470 لسنة 2019 حصر أمن دولة عليا، بنفس الاتهامات التي سبق إخلاء سبيله لاكتمال مدة الحبس ودون وجود دليل عليها واستمر تجديد حبسه على ذمتها إلى أن أصدرت محكمة الجنايات قرارًا بتغيير حبسه الاحتياطي إلى أحد التدابير الاحترازية في 26 أغسطس 2020؛ إلا أنه وللمرة الثانية أثناء إنهاء إجراءات خروجه من قسم الشرطة تم تدويره وبنفس الاتهامات في قضية ثالثة تحمل رقم 786 لسنة 2020. 

المحامي إبراهيم متولي احد مؤسسة رابطة اسر المختفين قسريا و والد الطالب المختفي عمرو

وينص الدستور المصري في المادة (51) على أن “الكرامة حق لكل إنسان، ولا يجوز المساس بها، وتلتزم الدولة باحترامها وحمايتها”. كما ينص في المادة (54) منه على أن “الحرية الشخصية حق طبيعى وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق. ويجب أن يُبلغ فورا كل من تقيد حريته بأسباب ذلك، ويحاط بحقوقه كتابة، ويُمكّن من الاتصال بذويه و بمحاميه فورا، وأن يقدم إلى سلطة التحقيق خلال أربع وعشرين ساعة من وقت تقييد حريته، ولا يبدأ التحقيق معه إلا في حضور محاميه، فإن لم يكن له محام، نُدب له محام، مع توفير المساعدة اللازمة لذوى الإعاقة، وفقا للإجراءات المقررة في القانون.

الجريمة تطال المواطن العادي 

ولم يسلم المواطنون العاديون من جريمة الاختفاء القسري التي طالت الكثير من الأشخاص غير الناشطين سياسيا في شتى أنحاء البلاد من جنوبها إلى شمالها، فنجد طالب هنا، ومهندس هناك، ضحايا لجريمة الاختفاء القسري. لكن هذا كان دافعا أكبر لمنظمات المجتمع المدني في مصر وعلى رأسها المفوضية المصرية للحقوق والحريات، لاستمرار جهودها دون كلل في كل أنحاء الجمهورية للتصدي لهذه الجريمة، فنجد على سبيل المثال لا الحصر، محامي المفوضية في أسوان، أقصى جنوب البلاد، يتخذون الإجراءات القانونية اللازمة للكشف عن (أ.م) وهو مواطن جرى القبض عليهم في العام 2019 أثناء توجهه إلى مقر عمله. وأسفرت هذه الإجراءات عن ظهوره – بعد أيام – أمام النيابة متهما على ذمة قضية سياسية.

وتأتي هذه الممارسات الشرطية غير القانونية، فيما تنص المادة (206) من الدستور المصري على أنه “جهاز الشرطة هيئة مدنية نظامية في خدمة الشعب وولاؤها له، وتكفل للمواطنين الطمأنينة والأمن، وتسهر على حفظ النظام العام، والآداب العامة، وتلتزم بما يفرضه عليها الدستور والقانون من واجبات، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتكفل الدولة أداء أعضاء هيئة الشرطة لواجباتهم، وينظم القانون الضمانات الكفيلة بذلك”. وتنص المادة الثالثة من قانون هيئة الشرطة الصادر بالقانون رقم 109 لسنة 1971 على أن “تختص هيئة الشرطة بالمحافظة على النظام والأمن العام والأداب وحماية الأرواح والأعراض والأموال وعلى الأخص منع الجرائم وضبطها كما تختص بكفالة الطمأنينة والأمن للمواطنين في كافة المجالات وبتنفيذ ما تفرضه عليها القوانين واللوائح من واجبها”.

يذكر أن مصر ما زالت ترفض التوقيع على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإختفاء القسري، وتنكر السلطات وجود الجريمة التي تتوسع في ممارستها على مدار السنوات الماضية.

وتجدد “حملة أوقفوا الاختفاء القسري” باستمرار مطالبها للسلطات والأجهزة الأمنية في مصر بضرورة الالتزام بما أقره الدستور المصري والقانون والمواثيق الدولية من عدم ممارسة الأفعال الحاطة من الكرامة الإنسانية والتي تهدد حياة المواطنين، كما تطالب الحملة بضرورة التوقف الفوري عن ممارسة جريمة الاختفاء القسري، وضرورة إجراء تعديل تشريعي يُجرم الاختفاء القسري، ويحفظ كرامة المواطنين بدلًا من التطبيع مع ممارسة الجريمة.

وتقول الحملة – في تقريرها السنوي الثامن – إن التوغل الشديد لجريمة الاختفاء القسري واستمرار ممارستها على مدار سنوات دون تقديم أي من مرتكبيها للمحاسبة مع تصاعد وتيرة اللجوء إليها من قبل الأجهزة الامنية في كل الأزمات التي تواجهها، ومع تجاهل جهات التحقيق للسياق الذي يتعرض فيه الضحايا لهذه الانتهاكات، إنما يشير إلى أن الأجهزة الأمنية وعلى رأسها قطاع الأمن الوطني وان كانت المرتكب الأول للانتهاك، إلا أنه هذا التجاهل من جانب جهات التحقيق إنما يُعزز ارتكابها على هذا النطاق الواسع، ويؤدي هذا التواطؤ من مؤسسات الدولة ووجود شركاء لمرتكب الجريمة إنما يسهم في جعل فعلا بالغ الاجرام والسرية والخطورة كاخفاء أحد الأشخاص ممارسة روتينية تتكرر بانتظام، ويتعرض خلالها ضحايا أكثر للانتهاك، ويُفلت مرتكبي الجريمة من العقاب.

وتؤكد الحملة على أنها كانت وستظل شريكًا وداعمًا لأهالي المختفين قسريًا في رحلتهم الشاقة للبحث عن ذويهم، ودعم كامل حقوق الضحايا في الحصول علي جبر الضرر والتعويض المناسب، وملاحقة مرتكبي جريمة الاختفاء القسري، ومكافحة إفلاتهم من العقاب.

Exit mobile version