المفوضية المصرية للحقوق والحريات

الفيلم الفلسطيني “200 متر”.. عن معاناة الفلسطيني في مواجهة جدار الفصل العنصري

“أنا بحاجة لأكون بجوار عائلتي ومع أبني”.

جملة بسيطة على لسان مصطفى، بطل فيلم “200 متر”، وهو أب فلسطيني يحاول الوصول إلى ابنه الذي تعرض لحادث سيارة ويرقد على فراش المرض بأحد المشافي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، بينما يقف جدار الفصل العنصري حائلاً بينهما؛ ورغم بساطة الجملة إلا أنها تبرز وتجسد المعاناة التي يعيشها الآلاف من الفلسطينيين تحت وطأة الاحتلال، الذين فرقهم جدار الفصل العنصري عن عائلاتهم وأحبائهم.

يبدأ الفيلم الذي نال إشادة نقدية واسعة لمعالجته الواقعية والمؤثرة لقضية جدار الفصل العنصري وتأثيره على العائلات الفلسطينية بالأب “مصطفى” الذي يقوم بدوره الممثل الفلسطيني العالمي علي سليمان وهو يقف في بلكونة منزله بطولكرم حيث يعيش مع والدته، ويدخن سيجارته وهو ينظر إلى بناية في الجهة المقابلة خلف الجدار العازل تعيش فيها زوجته “سلوى”، التي تقوم بدورها الممثلة لانا زريق وأطفاله، حيث يسكنون في إسرائيل.

حياة الشتات.. 200 متر وكأنهم 200 كيلو

مشهد من فيلم 200 متر

وبالرغم أن المسافة بين الأب وعائلته “200 متر” فقط لكن الجدار يفرض على الأسرة حياة الشتات، يعاني كل طرف الكثير من أجل الوصول للآخر حتى يلتئم شمل الأسرة لبضع ساعات، وهو ما يجعل الأب في وادي، وزوجته وأبناءه الثلاثة في وادي آخر. ويظهر ذلك جليا حينما يكتشف الأب أن ابنه “مجد” تعرض للضرب على يد بعض من زملائه في المدرسة الصيفية فيعاتبه لأنه لم يخبره بذلك، فيقول الابن: “وأنت هنا عشان أحكيلك؟!”.

وتضع هذه الحياة ثقلا كبيرا على كاهل “سلوى” التي تعيش صراعا داخليا بين حبها لـ”مصطفى” وبين كونها ترى أنه سببا في ذلك الشتات الذي تعيشه الأسرة، لأنه رفض الحصول على الهوية الإسرائيلية “الهوية الزرقاء” باعتباره من “عرب 48″، والتي تخوله دخول الأرض المحتلة في العام 1948، وتمسك بهويته الفلسطينية الخضراء، حيث تقول له في نقاش حاد بينهما على خلفية التعدي بالضرب على مجد في المدرسة الصيفية: “الحق عليك إنت لأنو كان عندك فرصة إنك تطلّع هوية إسرائيلية رفضت وتنحت”، ليجيبها بكل غضب “ما بديش الهوية”، فتشير باستنكار إلى حياتهما في منزلين منفصلين.

وفي أحد الأيام، يتوجه مصطفى إلى عمله في إسرائيل ليُفاجأ بإلغاء تصريح دخوله إلى هناك، ثم يتلقى بعدها اتصالًا هاتفياً من سلوى تخبره فيه أن نجلهما مجد تعرض لحادث سير ويرقد في المستشفى. وهنا يبدأ مصطفى رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر لعبور جدار الفصل العنصري بطريقة غير شرعية من أجل الوصول إلى ابنه والاطمئنان عليه.

ورغم القرب الظاهري للمسافة بين الأب وبين عائلته (200 متر)، إلا أن الرحلة التي سيخوضها “مصطفى” ستكون رحلة طويلة وشاقة تمتد مئتي كيلومتر حتى يتمكن من عبور الجدار العازل بطريقة غير نظامية، ويتجاوز الحواجز الأمنية ونقاط التفتيش التي يفرضها الجيش الإسرائيلي ليصل إلى ابنه ويطمئن عليه. 

مشهد من فيلم 200 متر

وخلال هذه الرحلة التي يخوضها مصطفى نتعرف على شخصيات أخرى لكل منها حكايته، لكن أبرز هذه الحكايات قصة رامي الذي رافق بطل الفيلم في رحلته لعبور جدار الفصل العنصري، والذي لا يتجاوز الثالثة عشر عاما ويسعى لعبور الجدار من أجل العثور على فرصة عمل داخل إسرائيل، وهنا يبرز ملف شبكة تهريب العمال الفلسطينيين من الضفة إلى إسرائيل، والمخاطر التي يواجهونها لكسب رزقهم.

ويطل علينا خلال هذه الرحلة أيضا “كفاح” الشاب الفلسطيني الذي يريد عبور الجدار من أجل حضور حفل زفاف ابن خالته، ومعه مخرجة ألمانية تصور هذه الرحلة؛ وتساعدهم في تجاوز نقاط التفتيش، ونكتشف لاحقا أنها يهودية من أم ألمانية وأب إسرائيلي لكنها متعاطفة مع القضية الفلسطينية، وهو ما لا يقبله “كفاح”، لكن مصطفى يعنفه ويقول له: “طلعت يهودية البنت. شو بدك تعمل معها.. تنتقم منها، لولا هادي البنت مكناش عدينا الحاجز”، ويضيف: “لو كنت فاكر أنك تروح عُرس ابن خالتك هو قمة المعاناة تبقى غلطان.. أنا عايش هذا الخراء كل يوم، أنا ابني ومراتي وولادي بعيدين عني 200 متر ورا هاي الجدار، فدير بالك”.

مشهد من فيلم 200 متر

بعد ذلك، يصل مصطفى إلى المستشفى؛ يحتضن زوجته التي لم يخبرها حينما كان يهاتفها أنه قادما بطريقة غير نظامية، ويعتذر لها وكأن الأمر كان بيده: “بتأسف لك حبيبتي، سامحيني.. اتأخرت عليكي كتير”. ويطمئن على ابنه ويضع حول يده سوار لفريق ليفربول، الذي يلعب له اللاعب المصري محمد صلاح، الذي يحبه الابن.

التمسك بالأمل

ويختتم المخرج الفلسطيني أمين نايفة فيلمه الرائع كما بدأ بمشاهد للجدار، من الصباح حتى الليل. وفي المساء يقف مصطفى على سلم خشبي، ويضع بعض لمبات ملونة على شرفة المنزل (البلكونة)، فيما تتحدث والدته مع حفيدتها “نورا” عبر الهاتف المحمول، فيأخذ منها الهاتف ويسأل ابنته “نورا” عن شقيقتها الصغرى “مريم”، ويقول لها: “جاهزة.. مين معك على البلكونة، مجد، نور، ماما.. اطلعوا عليه.. شايفيني.. نعد لخمسة مع بعض: 1، 2 ، 3 ، 4 ، 5”.. وبعد الرقم خمسة يضيء الأب اللمبات الملونة، في مشهد يحمل رسالة تفيد بتمسكهم بالأمل والحلم في أن تنتهي معاناتهم يوما ويزول هذا الجدار يوما.

كما أن الفيلم الذي لم يتم التطرق إلى النقاش السياسي اليومي حول القضية الفلسطينية، يُظهر روح الأمل والصمود لدى الشعب الفلسطيني، وتمسكه بالحياة وأرضه، على الرغم من الظروف القاسية التي يعيش فيها. ويؤكد مشهده الختامي أنه برغم البعد والاحتلال والجدار، فإن الروابط بين فلسطيني الداخل وفلسطيني الضفة لن تنكسر.

يذكر أن بناء الجدار بدأ في العام 2002 ويبلغ طوله حوالي 770 كم، وعلى ارتفاع 8 أمتار من الإسمنت المسلح. قد أعلنت محكمة العدل بعدم قانونية الجدار من منظور القانون الدولي في 2004. ويحيط هذا الجدار معظم أراضي الضفة الغربية ويعزل مدن وبلدات وعائلات عن بعضها البعض وينتهك حقوق التنقل لدى مئات الآلاف من الفلسطينيين حيث أنهم يضطرون إلى استصدار تصاريح خاصة من السلطة الإسرائيلية للسماح لهم بمواصلة العيش والتنقل بين منازلهم من جهة وأراضيهم وأعمالهم من جهة أخرى. كما أنه يصادر أيضاً أبسط حقوقهم في الحياة اليومية مثل التوجه إلى العمل والمدرسة والحصول على الخدمات الطبية. كما فصل الجدار بين العديد من العائلات وأصبح تلاقيهم أشبه بالمستحيل دون اللجوء إلى طرق عبور غير قانونية أو الحصول على تصريح إسرائيلي من الصعب الحصول عليه بالأصل.

وحكاية الفيلم هي ذاتها حكاية المخرج، وحكاية والدته، وأسرته، وآلاف الفلسطينيين الذين يعيشون تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، حيث ذكر أمين نايفة في تصريحات صحفية أن “قصة الفصل العنصري هي قصة أمي، فقد نشأتُ في بيت جدي وجدتي وأخوالي ولأننا ننتمي لقرية من عرب 1948 فقد انفصلنا بعد إقامة الجدار، وبدا كأن أهلنا يعيشون في كوكب آخر، لذا أردت أن أحكي في فيلمي عن هذا الفصل العنصري”.

وفاز فيلم” 200″ متر بجائزة الجمهور في أيام فينيسيا السينمائي، إضافة لجائزتي الجمهور ولجنة التحكيم من مهرجان أجيال، جائزة أفضل ممثل من أنطاليا، وأربع جوائز من مهرجان الجونة بينها جائزتا أفضل ممثل وأفضل فيلم باختيار الاتحاد الدولي لنقاد السينما FIPRESCI، وجائزة أفضل فيلم روائي طويل ضمن فعاليات الدورة الأولى من مهرجان القدس للسينما العربية. ولا ترتكز قيمة الفيلم فقط على الأداء المتقن والمؤثر للغاية من الممثل الفلسطيني على سليمان، ولكن أيضاً من حبكته التي ترتكز بالأساس على المعاناة اليومية لأهل فلسطين بعد تقسيم أرضهم بجدار الفصل العنصري الذي أقامته قوات الاحتلال الإسرائيلي.

وشارك في إنتاج الفيلم أربع دول: فلسطين والأردن وإيطاليا والسويد، وكان الحصول على تمويل للفيلم أمراً ليس سهلاً، وكانت البداية من خلال المنتجة مي عودة قبل سبع سنوات، واستُكمل من عدة جهات أخرى في إيطاليا والسويد. ويؤكد مخرجه أمين نايفة أن مشكلة التمويل هي أزمة السينما الفلسطينية، وعلى الرغم من أنها سينما مهمة تؤكد حضورها في المهرجانات العالمية وتحصد الجوائز، فإن ندرة التمويل من أبرز المشكلات التي تواجهها.

والأزمة التي واجهها بطل الفيلم للوصول إلى طفله في المستشفى لا تقل بأي حال عن الأجواء الصعبة التي صوَّر فيها المخرج مشاهد فيلمه والتي كشف عنها قائلاً في تصريحات صحفية: “ظروف التصوير لم تكن سهلة بالمرة، خصوصاً ونحن نصوّر في شوارع الضفة الغربية التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية وتمتلئ بأبراج المراقبة ونقاط التفتيش والحواجز، وكنا نصور من دون تصاريح فمن المستحيل أن يمنحونا موافقات رسمية بالتصوير، وتميز فريق الفيلم بالجرأة والشجاعة والحماس الذي مكّننا من إنهاء التصوير خلال 22 يوماً فقط”.

 أمين نايفة وجائزة سينما من أجل الإنسانية بمهرجان الجونة السينمائي.. مصدر الصورة/ حساب المخرج على فيسبوك

ويُعتبر فيلم “200 متر” من أهم الأفلام الفلسطينية التي تم إنتاجها في السنوات الأخيرة، وهو من إخراج وتأليف الكاتب والمخرج الفلسطيني الشاب أمين نايفة؛ ومن بطولة: علي سليمان (مصطفى)، لنا زريق (سلوى)، آنا أونتربيرجر (آني)، ومعتز ملحيس (كفاح). والفيلم من إنتاج العام 2020، ومدته 95 دقيقة، وهو متوفر على عدد من منصات المشاهدة الإلكترونية، ويتم بثه على شبكة “OSN” ومتوفر على تطبيق الشبكة.

 

Exit mobile version