الاجندة الحقوقية
31 أكتوبر
اليوم العالمي للمدن
التنمية والتهجير، تحديات الاستدامة البيئية والاجتماعية
إبراهيم عز الدين
باحث عمراني
في ستينيات القرن الماضي، برزت مجموعة من الكتاب والباحثين الذين وجهوا صناع القرار لتبني سياسات تنموية مستدامة، مشيرين إلى أهمية الحفاظ على الموارد الطبيعية وخطورة الاستهلاك المتزايد لهذه الموارد وتأثيره على حقوق الأجيال المستقبلية.
رغم ظهور الأفكار والنقاشات حول الاستدامة في الستينيات، إلا أن تعميق تبنيها دوليًا تم بشكل كبير بعد صدور تقرير برونتلاند عام 1987، بعنوان “مستقبلنا المشترك ” Our Common Future ” والذي أصدرته اللجنة العالمية للبيئة والتنمية التابعة للأمم المتحدة.
وفر هذا التقرير إطارًا شاملاً ومتكاملًا لمفهوم التنمية المستدامة، مما أدى إلى إدماج هذه الأفكار بشكل أعمق في السياسات الدولية والمحلية، واعتبر أول وثيقة دولية كبرى تدعو إلى التنمية المستدامة وتؤكد على أهمية تحقيق التوازن بين تلبية احتياجات الأجيال الحالية دون الإضرار بقدرة الأجيال المستقبلية على تلبية احتياجاتها.
مع تزايد استهلاك الموارد الطبيعية وظهور تهديدات جديدة في أفق العمران، أصبحت فكرة التنمية المستدامة ليست رفاهية أو ميزة تضاف إلى تخطيط المدن، بل أصبحت مبدأ أساسيًا في العملية التخطيطية. لم يعد السؤال “هل هذه المدينة مستدامة أم لا؟” محل نقاش، بل أصبحت الاستدامة ضرورة ملحة.
يُحتفل باليوم العالمي للمدن في 31 أكتوبر من كل عام، وهو مناسبة تهدف إلى تسليط الضوء على أهمية التنمية الحضرية المستدامة وتشجيع المجتمعات العالمية على تبني سياسات وممارسات تسهم في تحسين جودة الحياة في المدن. يمثل هذا اليوم فرصة للتفكير في التحديات والفرص التي يواجهها التوسع الحضري، وتعزيز التعاون بين الدول والمدن لتحقيق أهداف الاستدامة التي حددتها الأمم المتحدة.
تتمحور مبادئ الاستدامة حول تحقيق توازن بين الاحتياجات العمرانية، البيئية، والاجتماعية لضمان رفاهية الأجيال الحالية والمستقبلية.
عمرانيًا، تشمل الاستدامة تصميم وتخطيط المدن بحيث تكون مرنة وقادرة على التكيف مع التغيرات المستقبلية، مع التركيز على الاستخدام الفعال للمساحات وتقليل التمدد العمراني العشوائي.
بيئيًا، تتطلب الاستدامة الحفاظ على الموارد الطبيعية وتقليل التلوث، من خلال تبني تقنيات الطاقة المتجددة، وتشجيع النقل العام، وإدارة النفايات بشكل فعال.
اجتماعيًا، تهدف الاستدامة إلى تعزيز العدالة الاجتماعية والاقتصادية، من خلال ضمان الوصول المتساوي إلى الخدمات والمرافق الأساسية، وتعزيز المشاركة المجتمعية في صنع القرار، وتحقيق التكافل الاجتماعي.
تسهم هذه المبادئ مجتمعة في خلق بيئات حضرية مستدامة وصحية وبيئية تلبي احتياجات الجميع دون المساس بقدرة الأجيال المستقبلية على تلبية احتياجاتها.
مع اقتراب ذكرى اليوم العالمي للمدن، يثار التساؤل حول وضع المدن المصرية في السياق العالمي للاستدامة. فقد تعرض العمران المصري لتغيرات كبيرة تستدعي تبني سياسات الاستدامة بشكل عاجل، مثل الزيادة السكانية المتسارعة، والتلوث البيئي بما في ذلك تلوث الهواء والمياه والتلوث الصناعي، إلى جانب التغيرات المناخية التي تهدد مصر بشكل كبير بحلول عام 2050.
خلال العقد الأخير، توسعت الحكومة المصرية في عمليات التنمية العمرانية، والتي ترافقت مع تهجير السكان من منازلهم بالإكراه. يعتبر المشروع الأكبر للحكومة المصرية هو العاصمة الإدارية الجديدة، والتي رغم مراعاتها لمبادئ الاستدامة على المستوى التخطيطي، لم تلتزم بتطبيق مفاهيم العمارة الخضراء في الاشتراطات التصميمية والتنفيذية على مستوى المباني.
لم تُستخدم المواد الصديقة للبيئة بشكل واسع، ولم تحصل أي من المباني بالعاصمة الجديدة على شهادة المباني الخضراء. في الواقع، اهتمت الدولة بالمظهر الخارجي للمدينة الجديدة الذي يبدو مغطى باللون الأخضر، لكن نسبة الانبعاثات الكربونية ستظل مرتفعة من المباني الخرسانية.
قد يكون الالتزام بمعايير الاستدامة موجودًا في المخطط العام للعاصمة الإدارية، حيث يُروج لهذا المشروع إعلاميًا باعتباره الأكبر، ولكنه موجه إلى فئات اقتصادية معينة لا تشمل السواد الأعظم من الشعب المصري. في باقي مشاريع الإسكان التي تنفذها الحكومة، مثل مشروع الأسمرات، لا يتواجد حتى هذا المظهر الخارجي من اللون الأخضر. يُعاني سكان هذه المناطق من قلة الظلال والأشجار، مما يجعل التجول في شوارعها نهارًا في أجواء حارة غير محتمل.
تتقدم تقنيات ومواد البناء الحديثة بسرعة، مع التركيز على الاستدامة والكفاءة البيئية. تشمل هذه المواد الخرسانة الخضراء، والأخشاب المصنعة من مصادر متجددة، والزجاج الذكي، و الدهانات العاكسة للحرارة، وهي ابتكارات تساهم في تقليل البصمة الكربونية وتحسين كفاءة الطاقة في المباني.
ومع ذلك، لا تزال مصر تعتمد بشكل كبير على طرق البناء التقليدية التي لا تراعي معايير الاستدامة بشكل كامل. تُستخدم المواد التقليدية مثل الطوب الأحمر والخرسانة التقليدية بشكل واسع، دون الأخذ بعين الاعتبار استخدام المواد الصديقة للبيئة أو تطبيق التقنيات الحديثة التي تساهم في تحقيق الاستدامة.
النظر إلى السياسات الحكومية في عمليات التنمية العمرانية التي تصاحبها في أغلب الأحيان عمليات تهجير السكان من منازلهم بالإكراه، يوضح تأثيرها السلبي على الاستدامة الاجتماعية والعمرانية.
تسعى هذه السياسات إلى اقتلاع مجتمعات بكاملها، والقضاء على ثقافتها وأنشطتها الاقتصادية. أعود بالذاكرة إلى أحد أكبر المشاريع في تاريخ مصر، وهو بناء السد العالي، والذي صاحبه تهجير سكان النوبة من مناطقهم، ورفض الحكومات المتعاقبة عودتهم إلى أراضيهم مرة أخرى بجوار السد.
أدت هذه السياسات إلى تفكيك المجتمع النوبي والقضاء على ثقافة مصرية متأصلة ولغة تاريخية أوشكت على الضياع نتيجة عدم تجدد الأجيال المتحدثة بها.
الوضع نفسه يتكرر حاليًا مع تهجير سكان جزيرة الوراق، مما يثير العديد من التساؤلات حول تطبيق مبادئ التنمية المستدامة في مصر. جزيرة الوراق، التي تحقق تلقائيتها مبادئ التنمية المستدامة، تعتمد على أنشطة الزراعة والصيد، مما يساهم في الحفاظ على الموارد الطبيعية وتقليل البصمة الكربونية.
على الرغم من تدهور بعض مبانيها، فإن التدخل اللازم يجب أن يركز على التطوير والتنمية المستدامة، وليس القضاء على مجتمع بأكمله يعتمد على مصادر متجددة للحياة.
إصرار الحكومة على نقل سكان الوراق إلى مجتمع حضري يعتمد على استهلاك الموارد غير المتجددة يتناقض مع أهداف التنمية المستدامة. التحول من بيئة تعتمد على الزراعة والصيد إلى بيئة حضرية تعتمد على الإنشاءات الشاهقة يساهم في زيادة البصمة الكربونية، ويقلل من الاعتماد على الموارد المتجددة، مما يعزز الاستهلاك غير المستدام للموارد.
تهدف الحكومة المصرية إلى تحقيق طموحاتها الاقتصادية من خلال السيطرة على منطقة مميزة داخل النيل وإقامة منشآت شاهقة. ومع ذلك، تأتي هذه الخطوة على حساب مجتمعات تعتمد على النظم البيئية المستدامة.
يتطلب النهج الأمثل الحفاظ على التوازن بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة، من خلال تحسين وتطوير البنية التحتية والمباني في الجزيرة بطرق تحافظ على الطابع البيئي وتحقق الاستدامة. التدخل التنموي في الوراق يجب أن يركز على تعزيز البنية التحتية المستدامة، مثل استخدام مواد بناء صديقة للبيئة وتحسين كفاءة الطاقة والمياه، بدلاً من الاعتماد على الهدم والبناء الجديد.يجب على الحكومة تبني نهج شامل يضمن تحقيق التنمية الاقتصادية مع الحفاظ على مبادئ الاستدامة البيئية والاجتماعية، مما يعزز من قدرة المجتمعات على العيش بطرق تتوافق مع الطبيعة وتقلل من البصمة الكربونية.
في ضوء ما سبق، يتضح أن الاستدامة ليست مجرد مفهوم نظري أو ترف تنموي، بل هي ضرورة ملحة لتحقيق توازن حقيقي بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على الموارد الطبيعية والبيئية.
على الرغم من تقدم بعض المبادرات في مصر نحو تحقيق الاستدامة، لا تزال هناك فجوة كبيرة بين التخطيط العمراني الشامل والممارسات الفعلية على الأرض، خاصة عندما يتعلق الأمر بتهجير المجتمعات وتحويلها إلى بيئات حضرية تعتمد على استهلاك الموارد غير المتجددة، وتفكيك مجتمع كامل والقضاء على ثقافة ولغة متجذرين في تاريخ مصر، بالتالي تتحمل الحكومة المصرية مسؤولية كبيرة في القضاء على المجتمعات المحلية من خلال سياساتها التنموية التي غالبًا ما تتجاهل الأبعاد الاجتماعية والبيئية. والتي تؤدي غالبا الى زيادة البصمة الكربونية وتفاقم التحديات البيئية والاجتماعية.
في المقابل تركز الحكومة على المشاريع الضخمة التي تبرز كواجهة اقتصادية، لكنها غالبًا ما تتجاهل مبادئ الاستدامة في تصميم وتنفيذ المباني. عدم استخدام المواد الصديقة للبيئة وعدم الحصول على شهادات المباني الخضراء في هذه المشاريع يعكس تجاهلًا للممارسات المستدامة.
إذن، تتحمل الحكومة مسؤولية كبرى في فشلها في تبني سياسات تنموية توازن بين التطور الاقتصادي والحفاظ على المجتمعات المحلية وبيئاتها الطبيعية. يجب على الحكومة المصرية إعادة تقييم نهجها التنموي، وتبني سياسات تركز على التنمية المستدامة التي تعزز العدالة الاجتماعية والبيئية، وتحافظ على حقوق المجتمعات المحلية في العيش بكرامة واستدامة.
إن تطوير البنية التحتية وتحسين المباني يجب أن يتم بطرق تحافظ على الطابع البيئي والثقافي للمجتمعات، بدلاً من القضاء عليها ونقلها إلى بيئات حضرية غير مستدامة.