بمناسبة احتفال البهائيين بيوم الميثاق في 26 نوفمبر وكجزء من حملة المفوضية “التعددية ثراء”، وبغرض التعرف على من هم البهائيين وما هي معتقداتهم وما هو تاريخهم في مصر، تنشر المفوضية المصرية للحقوق والحريات هذا المقال.
بقلم : كمال الإخناوي أستاذ جامعي ومحاضر أكاديمي، ومؤلف وكاتب مصري.
المواطنة وتاريخ البهائية في مصر
الحديث عن الأديان غالبا ما نجده يتمحور حول الشق العقائدي منها والتشريعات من حلال وحرام وأحكام الصلاة والصوم وغيرها من الفروض. ورغم أن البهائية لها تشريعاتها وأحكامها الخاصة بها كالصلاة والصوم والحلال والحرام أيضا، إلا أننا نجد أن تلك التشريعات لا تتصدر التعريف بالدين البهائي كونها خاصة لمن آمن بها؛ فالبحث في موقع الجامعة البهائية العالمية يشير بكل جلاء إلى فعاليات البهائيين لخدمة العالم الإنساني وإلى مبادئ إنسانية عامة أتى بها حضرة بهاء الله لكافة البشر لتحقيق وحدة الجنس البشري.
يؤمن البهائيون أن الدين البهائي هو أقرب الأديان عهدًا في سلسلة الأديان المتعاقبة على تاريخ البشرية، ويشترك معها في الدّعوة إلى التّوحيد، وأنه دين مستقلّ بذاته له كتبه المقدّسة ومبادئه وأحكامُه، ويعترف الدّين البهائيّ بأن كلّ الأديان السّابقة سماويّة في أصلها، متّحدة في أهدافها، متكاملة في وظائفها، متّصلة في مقاصدها، جاءت جميعًا بالهدى لبني الإنسان. ولا يخالف الدّين البهائيّ في جوهره المبادئ الرّوحانيّة الخالدة الّتي أُنزلت على الأنبياء والرّسل السّابقين، وإنّما تباينت عنها تعاليمه، وأحكامه كما في جميع الأديان السابقة. فقد جاءت وفقًا لمقتضيات العصر ومتطلّباته من الرّقيّ والحضارة، فجاءت بما يجدّد الحياة في هياكل الأديان، وهيّأت ما يزيل أسباب الخلاف والشّقاق، وبما يقضي على بواعث الحروب، وأظهرت ما يوفّق بين العلم والدّين، وساوت بين الرّجال والنّساء في الحقوق وذلك توطيدًا لأركان المجتمع. وتتميّز تعاليم الدّين البهائيّ بالبساطة والوضوح، وتركّز على الجوهر، وتبعد عن الشّكليّات، وتحثّ على تحرّي الحقيقة، وتنادي بنبذ التّقليد والأوهام، وتهتمّ بنقاء الوجدان، وتعلن أنّ الدّين سبب انتظام العالم واستقرار المجتمع، وتشترط أن تكون أقوالُ الإنسان وأعماله مصداقًا لعقيدته ومرآة لإيمانه، وترفع إلى مقام العبادة كلَّ عمل يؤدّى بروح البذل والخدمة.
يعود تاريخ الدين البهائى في مصر إلى أكثر من قرن ونصف من الزمان. فى عام 1868 وعندما كان حضرة بهاء الله- مؤسس الدين البهائى- في المرحلة الأخيرة من نفيه وأثناء توجهه من مدينة أدرنة في تركيا إلى مدينة حيفا مر بمصر حيث رست السفينة بمدينة الإسكندرية قبل توجهه الى وجهته الأخيرة فى مدينة عكا. وفي غضون تلك الفترة بدأ انجذاب بعض المصريين للدين البهائي والتجاوب مع تعاليمه وكان ذلك عن طريق المراسلات بين حضرة بهاء الله واتباعه الأوائل وسفر بعضهم لمصر من آن الى آخر.
وتوسعت بعد ذلك الجامعة البهائية في مصر تدريجياً حيث تم نشر عدد من الكتب البهائية باللغة العربية في القاهرة، وأصبحت مصر نقطة عبور للبهائيين الغربيين القادمين من وإلى عكا وكانت الجامعة البهائية في مصر ذات يوم من بين أكثر الجامعات البهائية نشاطًا وحيوية في المنطقة. ومن عام 1900 إلى عام 1910 تم نشر العديد من المقالات في الصحف المصرية عن الدين البهائى.
وقد زار حضرة عبد البهاء – عباس افندى- الأبن الأرشد لحضرة بهاء الله والمبين والمفسر لتعاليم والده ومركز عهده وميثاقه مصر عام 1910 وكانت هذه فرصة للمزيد من الأدباء ورجال الدين والحكم والصّحافة أن يقابلوه طوال فترة إقامته، ومن بعض هذه الشخصيات الخديوي عباس حلمي باشا الثّاني الذى قابله أكثر من مرة، والشّيخ محمّد بخيت المفتي واتّصل بكثير من العلماء والباشوات، ومحرّري أمّهات الصّحف في القاهرة والإسكندريّة وغيرهم من أقطاب الهيئات الدّينيّة الشّهيرة وممثّليها حتى ومن قبل أن يحط حضرة عبد البهاء بقدميه في أرض مصر الطّيبة تناقلت الآنباء عن قرب وصوله مما جعل عبد الرحمن البرقوقي، صاحب مجلة البيان (القاهرية) يكتب في مجلته واصفا هذا الترقّب.
وتعد الفترة الي أقام بها حضرة عبد البهاء في القاهرة والإسكندرية ما بين 1910- 1913 فترة مميزة في تاريخ البهائية في مصر. حيث ازداد في تلك الحقبة عدد المؤمنين بالدين البهائي في مصر ازديادا ملحوظا حتى انه تم تأسيس المحافل البهائية، والتي تعد التشكيل الاداري التي اوصى به حضرة بهاء الله في كتاب الأقدس لادارة شؤون الجامعة البهائية. في 1925كانت مصر أول دولة في العالم تعلن قانونياً إستقلال الدين البهائي والذي سرعان ما حظي بإحترام عام في معظم دول العالم لمؤسساته. وقام البهائيون بتصنيف ونشر أحكام كتاب الأقدس الأساسية الخاصة بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والميراث والدفن وتقديم هذه الأحكام إلى مجلس الوزراء المصري حتى تم الاعتراف بالجمعية البهائية وتسجيلها تسجيلا رسميا في سجلات الحكومة في عام 1934.
الجامعة البهائية في جميع ربوع مصر في العقود التالية وحتى 1960 حيث بدأت سلسلة من الاضطهادات استمرت عقدين ونيف وكان ذلك بناء على سوء فهم لطبيعة الدين البهائي وأنشطة البهائيين مما أدى الى القبض على بعض البهائيين عدة مرات بتهم مختلفة. ولكن على مر السنين برأ القضاء المصري جميع البهائيين من هذه التهم. ثم برزت على الساحة في اوائل القرن الحالي مشكلة استخراج الأوراق الثبوتية للبهائيين حتى أصدرت المحكمة في 2009 حكم باستخراج الأوراق الثبوتية للبهائيين بإضافة شرطة (-) قرين خانة الديانة فيها.
هذا، واللافت للنظر أن البهائيين حين يسعون إلى الحصول على حق من حقوقهم المدنية التي نصت عليها دساتير مصر، نجدهم يتحدثون بمنظور أوسع وأشمل من حقوق البهائيين فقط؛ فحين يطالبون بحق مدني، فهم يطالبون بتطبيق مواد الدستور التي تتسع للجميع وتحقيق هدف المواطنة كونهم مصريين يعيشون على تراب مصر، يؤدون واجباتهم ويقومون بالتزاماتهم تجاه وطنهم، مطالبين أن يكون لهم ما لغيرهم وعليهم ما على الآخرين من حقوق وواجبات لخير ورفاه شعب مصر.
إن مفهوم المواطنة يتطلب منا نظرة فاحصة عميقة لمعانيها ومتطلباتها. ففي زمن التطور والتقدم التقني والمعرفي وفي عالم أصبح لأي حدث في جانب من المعمورة تأثيرات وتبعات على المجتمعات في جانب آخر، ليس من المنطقي حصر مفهوم المواطنة في ورقة أو بطاقة يحملها الانسان في جيبه. إن ترسيخ مفاهيم خدمة المجتمع في مراحل مبكرة من عمر الشباب وتأصيل القيم الأخلاقية وقيم التنوع والتعدد والتعايش متطلبات حيوية لا يمكن اغفالها في هذه المرحلة من الزمن. كما أن إدراك المصير المشترك للبشرية والترابط الوثيق بين مقدرات الشعوب والحضارات بتنوعها الجميل مطلب ملح لنجاة وتقدم سكان المعمورة.
هذه المواطنة الإيجابية لن تتحقق وتأتي أكلها إن لم تجد أرضية حاضنة من الوحدة والتآلف على امتداد مجتمعاتنا. وحدة لا تخشى التنوع والتعدد بل تحميه وتحافظ عليه وترى فيه قوة وثراء وجمالا بل وانعكاسا طبيعيا للهوية الإنسانية فالوطن كالأم لا يمكنه أن يفرق في الحب والعطاء بين أبنائه وهو بذلك يكون قدوة للمواطن الذي بدوره يتعلم بأن يحتوي في مشاعره القلبية الصادقة تجاه وطنه؛ كافة أبناء وأطياف الوطن والمجتمع. محققاً بذلك صورة الجسد الذي إذا اشكى فيه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.